تخلفنا الحضاري في مجال التعليم والإعلام والقضايا الاجتماعية ودوره في تشكيل فهمنا للواقع الاعلامي
هذا البحث من اعداد د خالد علي أبو الخير ونشر في مجلة بحوث ودراسات المدينة المنورة في العدد 12 بتاريخ محرم 1426 الموافق مارس 2005
عند قراءة أبحاثي وكتبي يرجى مراعاة السنة التي كتبت فيها والكتب والأبحاث والوقائع التي كانت موجودة وليس الأن
د. خالد بن علي أبوالخير
تخلفنا الحضاري في مجال التعليم والإعلام والقضايا الاجتماعية ودوره في تشكيل فهمنا للواقع الإعلامي
مقدمة :
عاشت أمتنا الإسلامية فترة طويلة من الزمن تقود ركب الحضارات الإنسانية وكانت جامعاتها مناراً لطلاب النور في شرق الأرض وغربها . وعمرت الأرض كما بنت الإنسان في انسجام علمي وعقلي وروحي . ولم يشهد تاريخ حضارتنا انفصاماً بين العلم والعقل والروح كما شهدت ذلك حضارات أخرى ؛ ويوم تربعنا على عرش الحضارة كانت يدنا معطاءةً لجميع الأعراق والأديان ولم تكن مصالحنا الاقتصادية أو أمننا القومي يمنعانا من أداء رسالة إنسانية هي انتشال الإنسان من تشتت العقل أو الانكفاء على الروح أو عبادة العلم إلى مزيج من علم بني على عقل ووقوده روح وثابة .
كل ذلك كان في أمتنا وليس ذلك غريباً فكذلك تبنى الحضارات ، لكن الذي يؤلم أن نتخلف عن ركب الحضارات بعد كل ذلك العطاء الطويل ثمّ الأغرب من ذلك أن نزداد تخلفاً فنمسي وكأن لم تمر علينا يوماً حضارة . كيف تحولنا من أمّة علم إلى أمّة جهل ، وأميّة تزيد في بعض مناطق العالم الإسلامي مثل أفغانستان عن 90 % خلال السبعينات الميلادية من هذا القرن [1] . ومن أمّة شهد لها العالم بأن بدء كثير من العلوم كان على يديها إلى أمّة ترى في كل شيء عند الآخرين جديد عليها ، ومن أمّة عقل قائم على أسس منهجية في التفكير يبرهنه تراثنا في الكتب والمؤلفات والمواقف السياسية والعسكرية إلى أمّة مستهلِكة لكل فكر نادى به شرقي أو غربي .. أمّة متخبطة ترى في الدولة الواحدة تبدل ثلاث أنظمة سياسية خلال أقل من عقد من الزمان[2] .
أيضاً أصبنا بجفاف الروح نتيجة ما سبق ، فما عاد دافع يدفعنا نحو اللحاق بالركب الحضاري وتولد عن جفافنا الروحي ما يسمّى بالموت الحسي تجاه الحضارات ؛ فلا يهمنا أن تخرج اليابان محطمة من الحرب العالمية الثانية ثمّ تبني نفسها لتقود العالم اقتصادياً وصناعياً خلال ثلاث عقود فقط ، هذا الموت الذي جعل القطارات الحضارية تمر من حولنا ولا يتحرك فيها عضو ولا عضلة اللهم إلاّ عضلات الاندهاش في الوجه ترسم للآخرين صورة ما نعيشه من تخلف حضاري .
كيف بدأ هذا التخلف وما أسبابه في المجالات التعليمية والإعلامية والاجتماعية ؟
هذا ما ستحاول هذه الدراسة الإجابة عليه .
وما هو التغير الاجتماعي الذي مرّ على العالم الإسلامي خلال قرن من الزمان ؟
فبعد قرون من الحضارة في بلادنا الإسلامية استمرت لأكثر من ثمانية قرون، ثمّ قرون من بدء الانحسار الحضاري من دولتنا الكبرى في الأطر المادية والمعنوية أفرزت أمتنا ثمرة تخلفها في نهاية القرن الهجري الماضي وبداية هذا القرن . ولاستعراض هذا التخلف يمكن تقسيمه إلى ثلاثة عناصر رئيسة تنطوي تحتها عناصر التخلف الأخرى :
- التخلف التعليمي .
- التخلف الإعلامي .
- التخلف الاجتماعي .
أولاً : التخلف التعليمي :
عندما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم تأسيس الدولة في المدينة كان من أهم ما ركّز عليه جانب التعليم ؛ فكان يحث على طرق أبواب العلم واستخدم أسرى بدر لزيادة كتبة الكتب في الأمة العربية الأمية في ذلك الزمان ؛ ثمّ حثّ أيضاً على التعليم بعد التعلم ليحقق بذلك هدفين هما زيادة نسبة المتعلمين في الأمّة ؛ وبالتالي زيادة نسبة الراغبين في تعليم الآخرين كهدف ثاني والتي تعني بمصطلحاتنا اليوم الراغبين في تغيير مجتمعاتهم من الجهل إلى العلم ومن التخلّف إلى التقدم .
هذه الروح التي أشعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة في مقتطفات من هذه الأحاديث : “ومن سلك طريق يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريق إلى الجنة” رواه مسلم[3] . وقوله صلى الله عليه وسلم “من يرد الله به خيراً يفقه في الدين” رواه البخاري[4] . وقوله صلى عليه وسلم “لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها” رواه البخاري[5] .
وهكذا أصبح المسجد مدرسة للدرس كما يعبر عنه في القرون الأربعة الأولى وللمناظرات والمناقشات كما يعبر عنه في القرنين الخامس والسادس الهجري . ففي القرون الأولى كان بناءنا الحضاري في شقه العلمي قد تأسس في المساجد ، فكل علومنا التراثية درست ونقلت في المساجد ؛ ثمّ تطور دور المسجد التعليمي بعد انتشار الفرق ودخول الثقافات إلى أن يكون موطن المنازلات العلمية يطرح كل فريق حجته ، وكذلك كان موطن المناقشات لآراء السلف وشرح مناهجهم وجمعها في نظام علمي جديد هو نظام الموسوعات ، وبذلك تكون هذه المرحلة هي المرحلة الحقيقية لتأسيس النظام الجامعي الحديث.
هكذا كان المسجد في وجهه العلمي والتعليمي حتى بدأ هدمنا التعليمي ؛ فكما نشأت مدارسنا الشرعية والفكرية والعلمية من المساجد فقد بدأ معول الهدم الثقافي من المساجد أيضاً . فقد نشأ التعصب المذهبي ليقضي على باب الاجتهاد في العلوم الشرعية وليجعل من علماء القرون اللاحقة صوراً باهتة لتلامذة القرون السابقة ، وتوج ذلك التخلف بإغلاق باب الاجتهاد وسطر على ذلك الباب أن لا اجتهاد بعد اليوم وهو ما يعني في لغة عصرنا أن لا حضارة بعد اليوم . فالفقه نتاج لمعايشة أمور الناس وتجدد ما يلاقونه من مسائل وقد تغيّرت الفتوى بحسب الزمان وحسب المكان ولم يكن لهذا التغير في الفتوى من مصداقية سوى الاجتهاد ومن خلال الضوابط الشرعية ؛ فعندما يغلق باب الاجتهاد وقد تغيرت أحوال الناس وأماكنهم فكيف تصلح فتوى وضعت محددة لزمن ومكان وأشخاص لتصبح دستوراً لا يتغير .
من هذا الثغر بدأ تخلفنا لأن بداية تقدمنا كانت من هذا الثغر أيضاً (كما أسلفنا عند الحديث عن دور المسجد في نشأة التعلم والتعليم) . فتحول دور المعلم إلى الملقن وتحول دور طالب العلم إلى تاليّ العلم أو قارئ العلم وبذلك أصبحنا أمّة تعيش على أمجاد غيرها ممن سبقوها . في ذلك الزمن استمرت العلوم التطبيقية في تقدمها بعد تخلف العلوم الشرعية والفكرية لدعم الخلفاء لهذا التوجه العلمي حتى إذا سرت حمى الجمود على روح الأمّة نتيجة التوقف الفكري والشرعي بدأ الانحسار على صفحتنا في العلوم التطبيقية يظهر.
هذه المعادلة التي لا تنجح حضارة بدونها العلم والعقل والروح كانت كلها بأيدينا وكما بدأنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالروح فكذلك هُزمنا في الميدان التعليمي بالروح . فإغلاق باب الاجتهاد وقبله التعصب المذهبي كلها بدايات لإماتة الروح في البحث عن جديد وحل كل مشكل . ثمّ لما فقد الجسم دافعه إلى الحركة سرى الخمول على عقل الأمّة ومفكريها وعلمائها . وهكذا أصبحنا نَعُد العلماء في كل قرن بعد أن كان عدهم في كل عقد مسألة تحتاج إلى جهد . وكان من الطبيعي أن لا ينتج خامل عامل . فانحسرت علوم الطبيعة والفلك والطب والجغرافيا وغيرها وما بقي إلاّ بضع أسماء نعلمها لأبنائنا لعلماء ذلك الزمن كالإدريسي وابن سينا والفارابي وغيرهم .
نتيجة لما سبق عزف الناس عن العلم وعن ركبه ثمّ عزفوا عن التعلم حتى ولو كان أيسره (القراءة والكتابة) فازدادت الأمية حتى صارت ظاهرة واضحة في المجتمع الإسلامي وما ابتدأ القرن الرابع عشر الهجري إلاّ والعالم الإسلامي هشيم تفشت فيه الأمية بعد تفشي الجهل وصار المار لا يكاد يصدق ويسأل أكان هؤلاء أصحاب حضارة ؟ أين جامعات بغداد ودمشق وقرطبة وغرناطة وطشقند وبخارى (وغيرهم كثير) .
إنّ هذا الواقع في التخلف التعليمي أساس لكل ما نعانيه اليوم من مشكلات فهمية لمسيرة العالم من حولنا ومشكلات تفسيرية لمشكلاتنا الحقيقية . فلم نعد نستطيع في كثير من محاضراتنا وكتبنا تحديد الجهة أو الفترة الزمنية أو العوامل الأساسية في تخلفنا التعليمي . فأوروبا حددت فترة جهلها وعصورها المظلمة كما حددت أن الكنيسة وحكام ذلك الزمان كانوا السبب الرئيسي في تلك الظلمة . أما نحن فلم نستطع حتى الآن معرفة كيف تحولنا كأمة من قمة العلم إلى قعر الجهل في أمور العلم بالتحديد .
هذا المشكل كان سبباً في تخبطنا خلال القرن الماضي حينما حاولنا علاج مشكلة الأمية ونشر التعليم . فلقد حاول السلطان عبد الحميد وغيره من السلاطين العثمانيين وحاول الحكام بعد سقوط الخلافة كذلك في نشر القراءة والكتابة وإيجاد رغبة التعلم عند الشعوب المسلمة لكنهم جميعاً لم يستخدموا المنهج العلمي في تحقيق هذه الرغبة . لذلك انتشرت الكتاتيب أكثر من قبل تعلِّم القراءة والكتابة وتعلِّم القرآن . ثمّ افتتحت المدارس الحكومية بشكل أكثر في العواصم والمدن الرئيسية . وهنا بدأ التخبط فلم يكن هناك منهج علمي يخرج من خلاله الطلاب بشخصية تعبر عن ذلك المنهج . فالمعلوم أنّ المنهج التعليمي الذي يبني الطفل على حب الملكية الفردية وأنها أساس المجتمعات وأن لا سلطان على الإنسان إلاّ نفسه سيخرج شخصية علمانية رأسمالية كما هو حادث في غرب العالم . وكذلك الحال في المنهج القائم على عبادة الوطن وأنه سر النجاح وأساس كل مجتمع متقدم ، عندما ينشأ عليه الطفل الكوري سينتج شعباً عاملاً مضحياً بوقته من أجل وطنه .
لكن الصورة في مجتمعاتنا اختلفت فقد أخذ من مناهج التعليم في الغرب والشرق كتب ومعلومات وصفت على شكل مجموعات تدرس لطلاب المدارس دونما عقد يجمعها ودونما رابط يربطها فأنتجت جيلاً متلوناً بألوان ما درس . فالمستغربون أو دعاة التغريب كانوا نتاجاً طبيعياً لمن نشأ على اللامنهجية في التعليم ثمّ أكمل دراسته في أوروبا فقدم إلينا لا يرى الشمس تشرق إلاّ من الغرب . وكذلك الرفاق الذين نشئوا في مدارس المعلومة والكتاب عندما ذهبوا إلى الشرق لإكمال دراستهم ظنوا أنه شرق لا تغرب عنه الشمس .
ولذا لا أراك تعجب عندما تقرأ لطه حسين قوله : (.. أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم ولنكون لهم أنداداَ أو لنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب، ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع مخدوع)!![6].
وكذلك لا تعجب عندما تسمع أن عبد الفتاح إسماعيل كان ينتقد بعض قادة الاتحاد السوفيتي (سابقاً) لأنهم لم يستطيعوا فهم ماركس ولم يملكوا الجرأة على تطبيق أفكاره كما هي . وإن أردت مثالاً آخر فلك أن تقرأ الصحف التي ذكرت أن دولة ثورية عربية أعلنت الحداد سبعة أيام على وفاة زعيم كوريا الشمالية[7]. هذه نماذج من قادة الرأي والسياسة من دول العالم الإسلامي توضح أن اللامنهجية في التعليم أثمرت تخبطاً في الشخصية الناتجة وجعلتها فريسة أي قيادة تدرك كيف تقودها .
العوامل التي ساعدت على تخلفنا التعليمي :
هناك مجموعة من العوامل التي ساعدت في تخلفنا التعليمي ، يمكن استخلاصها من الاستقراء السابق وهي :
1 – انعدام الروح :
وقد بدأ هذا الانعدام منذ قرون عديدة بعد أن أغلق باب الاجتهاد وأصبح المسجد مكان عبادة والكتاب للقراءة فقط والدفتر للكتابة فقط ولم يعد في الثلاثة تفاعلاً يخرج علماً بل أصبحوا مسجلات لعلوم وعلماء سابقين وانحصر دورهم في حفظ ذلك التراث فقط. هذا الشعور أثّر حتى على نقل المعلومة فلم تعد هناك الرغبة في توصيل ذلك العلم إلى راغبية وبذلك انحسر أيضاً الراغبين في هذا العلم .
وكنا بذلك فاقدي الطاقة المحركة للعلم والتعلّم . وهكذا نقص عدد الجامعات وزاد عدد الجهّال وانفضّ الكتّاب عن تلاميذه وصار القارئ للأحرف العربية في القرى والهجر يقال له متعلم بعد أن يشار إليه بالبنان . وفي المدن انحسر العلم في الكتّاب يُعلِّم القاعدة البغدادية وسوراً من القرآن الكريم ثمّ ينطلق الفتية يعملوا مع آبائهم ((فصنعة في اليد أمان من الفقر)) .
2- محاولة القضاء على تعليم المرأة :
يخطئ من يظن أن المرأة نصف المجتمع في قضايا التعليم . فالمرأة (خصوصاً الشرقية) تتحمل الدور التعليمي كاملاً في البيت . فإذا بدأت معرفة الطفل لأبجديات النطق سيجد أمامه معلمته (الأم). وإذا بدأ تعلم أبجديات الحروف فلن يجد إلاّ الأم وكذلك الحال في متابعة دروسه خلال سنواته الدراسية الابتدائية والمتوسطة . فالرجل (والشرقي خصوصاً) يعتبر أن كل المسئوليات داخل حرم المنزل من اختصاص المرأة وأن دوره الحقيقي خارج المنزل بحثاً عن الرزق . وفي المنزل ينحصر دوره في الإدارة العامة وأن يشكل البعبع الذي تلجأ إليه الأم لتخويف أبنائها من عصاه وتأنيباته بعد أن تفشل طرقها في علاج المشكلات الداخلية . ولذلك فنحن كشرقيين نطلق على الزوجة من باب النكتة وزارة الداخلية ، لكنها في الحقيقة ليست نكتة وإنما تعبير عن واقع الدور الذي تقوم به في الشئون الداخلية للمنزل ابتداءً من الطهي إلى التعليم والتربية .
ولذا تجدنا كعرب نردد البيت القائل :
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
ولا أدري لماذا لم يصف الشاعر أن لو لم نُعِد هذه الأم فأي شعب سنكون . والناظر لحال أمتنا يرى أن محاولة قد حدثت خلال القرون القريبة الماضية سعت بكل ما تستطيع لتجهل المرأة . فنسبة الأميّة في المحيط النسائي في دولنا ودول العالم الثالث بشكل عام أكبر بكثير من نسبة الأميّة في المحيط الرجالي . وللأسف أن العادات القروية والبدوية في النظرة إلى دور المرأة في المجتمع قد انعكس على دورها في التعليم . فالمرأة في هذا القانون لها هدف واحد أن تبحث عمّن يسترها ، ثمّ إن سترت فيحول الهدف إلى إسعاد زوجها وخدمته وإنجاب الأولاد . وفي هذه المجتمعات يكثر التركيز على أن الخروج عن هذه الدائرة خروج عن العفة وعن دورها الذي أناطها به الإسلام . وقد وجد من العلماء من بعثر في كتب التراث بحثاً عن أدلة تؤكد أن الإسلام هو الذي حدد لها هذه الأهداف وليس مجتمع القرية أو البادية .
ولم يكن عجباً في بعض قرى مصر وفي مناطق أخرى أن تمنع المرأة عن مناداة زوجها باسمه بل تستخدم سيدي . بل لك أن لا تتعجب أن نعيش في بداية القرن الخامس عشر الهجري ونهاية العشرين الميلادي ونحن نرى في بعض مناطق السعودية من يقول عند ورود ذكر زوجته أو أمه عبارة توضح ما ذكرنا وهي (كرّمكم الله) وكأنها خبث يستعاذ منه . فكيف إن كان بعض هؤلاء من طلاب الدكتوراه في بريطانيا وأمريكا .
كيف سيكون دور المرأة فعالاً في إخراج شعب طيب الأعراق وهناك عبارة لازالت تتردد على الألسن تصفها بأنها أدنى من الحد البشري وتدعو للسامع بأن يكرّمه الله عنها ، والله سبحانه وتعالى قد كرّم بنى آدم ذكرهم وأنثاهم في قوله : {ولقد كرمنا بنى آدم}[8] . هذه النظرة كانت إشارة وعنوان لمفهوم تجهيل المرأة وجعلها أداة نافعة لخدمة الرجل بدلاً من موجه لكل رجال الأمّة منذ طفولتهم وحتى سن الرجولة .
وقد ساعد أيضاً على تثبيت هذا المبدأ (حرمان المرأة من حقها في التعلم) البدايات الأولى للثائرات على وضع المرأة في المجتمع الشرقي كهدى شعراوي وأمينة السعيد قديماً ونوال السعداوي حالياً وغيرهن[9] . فهؤلاء لم يحللن المشكلة وإنما فتحن مشكلات أخرى . فقد كان الحل في أذهانهن اتخاذ المرأة الغربية قدوة ، والتحرر من الحجاب بداية التحرر من الواقع المر للمرأة[10] ، وهكذا أفكار وآراء . وبذلك أصبحن مثلاً لمن أرادت التعلم أنّ عليها أن تسير في خطهن الفكري قبل الوصول إلى المدارس ثمّ الجامعات . وكذلك الحال بالنسبة لمن حرموا المرأة من حقها في التعلم ، فقد استخدموا نماذج هدى شعراوي وغيرها كسلاح موجه لمن أرادت التعلم وهي محافظة على دينها وحجابها وقد كتبوا لها أنها إن أرادت التعلُّم فهكذا ستكون[11] .
ولم يكن غريباً أن نتخلف تعليمياً كمجتمعات شرقية إن كانت معلماتنا منذ نطق الحرف وحتى البلوغ جاهلات ، لا يعتبرن التعليم في قائمة أولوياتهن حتى يسّر الله نشر التعليم بين صفوفهن في العقود الخمسة الماضية ؛ فظهرت إمكاناتهن وبرزت قدراتهن ، وما عاد الشرقي يرى فيهن شقائق الرجال ، فقد سبقن الرجال في المنافسة التعليمية وإن شئت فانظر إلى نسب النجاح في الثانوية العامة في جميع الدول العربية وقارن بين نسبة نجاح الأولاد ونسبة نجاح البنات فسترى عجباً !! .
3 – حصر مفهوم العلم في العلوم الشرعية :
هناك مفهوم متواجد عند جميع المتخصصين في أي علم من أنواع العلوم وهو الفوقية العلمية لهذا العلم على سائر العلوم الأخرى . فالطبيب يرى أن الطب هو أبو العلوم لأن به – بعد قدر الله – يشفى الإنسان من المرض . وكذلك المتخصص في الاقتصاد فنظرته إلى المال وتدويره وقيام أمّة وسقوط أخرى بسبب الاقتصاد أمثلة دائمة الترداد على لسانه وهو يوضح أهمية علمه ولا يخرج بالطبع عن هذه الدائرة المتخصص في العلوم الشرعية في إيضاح أن كل العلوم تدرس الإنسان وخدمته خلال حياته إلاّ العلوم الشرعية فهي قائدته في حياته وحاميته – عند رضى الله عليه – عند مماته .
هذا المفهوم قد ولّد ما يسمى بالفوقية العلمية التي ترى أن علماً ما هو أبو العلوم والآخرين أبناء أو أحفاد للعلوم . والفوقية العلمية تولد دائماً غيرة علمية تؤدي بصاحبها إلى انتقاص العلوم الأخرى حتى يسمو علمه ، وهنا مكمن الخطر . فالإنسان بصرف النظر عن إسلامه أو كفره في حاجة إلى هذه العلوم كلها ، فالاقتصاد والزراعة والهندسة والفيزياء وعلوم الدين وعلوم اللغة والأحياء والطب .. الخ مقومات حياتية لا يمكن أن تسير حياته على هذا الكوكب بدونها .
واستخدامها الاستخدام الأمثل هو الطريق الصحيح لحياة أفضل . ولذا فكل المنازلات والإفرازات لهذه الفوقية لا تخرج عن دائرة الدفاع عن العلم أياً كانت صورته وتاريخ البشرية مليء بمثل هذه الصدامات .
وفي أمتنا الإسلامية قرأنا الكثير من ذلك في كتب تراثنا خلال فترة النهضة الطويلة لكن الانسجام العلمي والجو الحضاري كان يحول هذه الفوقية العلمية إلى اندفاع للبحث في أغوار كل علم حتى يثبت كل عالم بأن تخصصه أشمل وأوسع . حتى إن خمدت نهضتنا وانمحى علمائنا في علوم الدنيا لم يبقى سوى علماء قلّة متخصصون في علوم الدين . ولذا سعى هؤلاء إلى دفع الناس إلى دخول العلم من باب تخصصهم وحثوا من أراد العلم أن يخلص لتخصصه . فلما رأوا إحجاماً عن علوم الدين والتفات إلى علوم الدنيا في بداية القرن الهجري الماضي بدأ هؤلاء العلماء البحث في أغوار المناظرات والمنازلات والكتابات بين متخصصي العلوم ليبرهنوا أن العلم (قال الله قال رسوله) وأن ما سواه لا يخدم آخره المسلم ! وهنا كان مكمن الخطر . فما ذكره السلف في التفاضل بين العلوم كان في فترة نهضة شاملة وحضارة جامعة يدرك خلالها الناس أن تلك الأوصاف لعلم دون علم من باب التسويق لهذا العلم . أما عندما تموت الروح وينبعث أمل تجديد الحضارة في العلوم كلها توضع لافتة تقول العلم (قال الله قال رسوله) إذن فإن ما سواهما ليس بعلم بل مضيعة لوقت الإنسان وحياته .
هذا المفهوم كان من أسباب تخلفنا في المجال التعليمي فلا ينكر عاقل فضلاً عن أن يكون مسلماً أن العلم قال الله وقال رسوله. لكن صاحب المقولة نفسه إن أراد يناء دار أو أراد معرفة علّة أصابته أو أراد الزراعة أو كان من التجار فهو يدرك أيضاً أن هذه مجالات لها علمها وفنها وأنّ البحث في هذه العلوم واجب شرعي لأنها تخدم حياة الناس . ثمّ لم يقل أحد بفرضية العين على علم من العلوم أو تخصص من التخصصات بل ترك فرض العين على المعلوم من الدين بالضرورة وما عدا ذلك ففرضية الكفاية تكفيه .
فالتعليم على النظام الحديث مع كل ما فيه من عيوب إلاّ أنه يخدم قطاعاً كبيراً من قطاعات حياتنا المعيشية . ولذا فنشر العلماء بين الناس أن العلم هو علوم الدين فقط قد ولّد لدى الشباب انطلاق إلى العلوم الأخرى وهجراناً لعلوم الدين في منتصف القرن الهجري الماضي بعد أن كان الشباب منكباً على علوم الدين فقط لعدم توفر غيرها . وبذا خسرنا في الميدانين ، في السابق عندما انكبّ الناس على علوم الدين فتخلفنا في الطب والهندسة والفيزياء والزراعة .. الخ ، ثمّ لما اتجه الشباب إلى العلوم الأخرى خسرنا لأنهم ذهبوا إلى جامعات غربية تهذب فكرهم وتوجهه نحو أفكارها اليمينية أو اليسارية قبل أن تعطيهم المعلومة[12] . ولم يلتفت هؤلاء العلماء المتخصصون في الشريعة أن بينهم أنفسهم فوقيات علمية . فأهل الحديث وحججهم على أن العلم علم الحديث وأن ما سواه لا يقرب إلى منزلته ، وكذلك أهل الفقه الذين يرون أن العلوم الأخرى كاللغة والحديث والتفسير أدوات للفقيه يستخدمها في استنباط الأحكام فقط وأن علمه هو العلم وعلماء العقيدة لهم كذلك رأيهم في أفضلية تخصصهم ، وما دامت هذه الفوقية دافعاً للبحث في أغوار العلم فهي محمودة ، أما إذا خرجت إلى انتقاص ما سواها حتى من أفرع تخصصها العام فقد أصبحت لافتة تخلف ومعول هدم .
4 – فصل التعليم عن العلم :
بعد قرون التخلف بدأ المسلمون البحث عن العلوم الأخرى غير علوم الشريعة ولكن حاجز التخلف الحضاري بينهم وبين علماء المسلمين المتخصصين في الطب والكيمياء والأحياء وغيرها قد كان كبير ، لذا استسهل المسلمون اللجوء إلى الغرب والنهل من معارفه في هذه العلوم . وقد ساهم هذا النقل في تسهيل تدريس هذه المواد للطلاب حيث أنها تدرس أصلاً في كتب بلغات المسلمين . ثمّ توفير مدرسين متخرجين من أقسام علمية ليقوموا بتدريسها .
إلاّ أن الخطر قد تحدد في الاختلاف الكبير بين بعض مضامين هذه المواد وبين ما يعتقده المسلم . فالمعروف أن الحقائق العلمية لا يقف أمامها دين أو عقل إلاّ أن النظريات تظل في إطارها النظري حتى يأتي من يثبت حقيقتها أو يثبت فشلها ، ولذا فهي قابلة للرفض كما هي قابلة للتوقع من ثبوتها . والخطر هنا أننا أخذنا من الغرب كله حقائقه ونظرياته صحيحها وأقربها إلى الصحة وسقيمها وأقربها إلى السقم . والأخطر من ذلك أنها قررت كمقرارات دراسية يدرسها طلاب المرحلة الابتدائية وحتى طلاب المرحلة الجامعية .
والطفل يدرك أن ما يعطى له من معلومات يفترض في أقلها الصحة فضلاً عن أن أكثرها في ظنه حقائق ولا يدرك الفرق بين الحقائق والنظريات ، لذلك فكل ما يدرسه من وجهة نظره عبارة عن حقائق . وهنا يأتي التصادم . فالطالب يدرس في الابتدائية أن المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم في مادة العلوم في حين مدرس مواد الدين يقول أن المادة تفنى وأنها تنشأ بقدرة الله . وبرغم الخلاف اللفظي في الموضوع إلاّ أنّ الالتباس الذي يقع في عقل الطفل أيهم يصدق أستاذ العلوم أم أستاذ الدين ثمّ تأتي المرحلة المتوسطة فيدرس نظرية داروين في العلوم وفكرة تطور الخلق ، ثمّ يأتي مدرس الدين ويتلو قول الله وتعالى : {وإذ قال ربّك للملائكة إنِّي خالق بشر من طين ..}[13] وتأتي المرحلة الثانوية ليدرس في الجولوجيا عن إنسان الكهوف وتطور الحصان وتغير شكل الإنسان ويدرس في مواد الدين عكس ذلك ، حتى إذا دخل الجامعة درس نظرية فرويد وغيرها على أنها التفسير الحقيقي لنفسية هذا الإنسان وتصرفاته وسلوكياته ويدرس في مواد الثقافة الإسلامية عكس ذلك .
هذا الانفصام في تقديم معلومتين متناقضتين إحداهما تقوم على فرضية لم يثبت أحد من الغرب أو الشرق صحتها لكنها تدرَّس على أنها جزء من المنهج الدراسي المفترض من الطلاب سلفاً الإيمان بأنه جملة حقائق ، مع معلومة دينية لا تناقش هذه الفرضيات بشكل خاص ؛ ولكن تقدم مجموعة من الحقائق عن الكون والحياة من خلال تفسير آيات الكون في القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم . هذا الانفصام يمتد لأساتذة المواد أيضاً الذين لم يدرس أحد منهم ما قال الآخر ويتولى الرد عليه رداً علمياً ، فالكل يفتي من علمه وتخصصه فقط ويأتي باستدلالته من علمه فقط . فالمعروف أنّ هذه أو تلك النظرية قد دحضها أهل الغرب أنفسهم وأن الرد عليها ينبغي أن ينطلق من دفع أصل النظرية . لكن مدرس الدين لا يعرف أصلها ولم يدرس يوماً موقف الغرب منها . ومدرس مادة العلوم يستشهد بفشل المتدينين في إدراك عصر التطور والنهضة في هذا القرن الميلادي ليثبت بطلان قول مدرس الدين . فيضرب أمثلة ليضلل بها الطلاب عن علماء الدين الذين لازالوا يظنون أن الأرض ليست كروية وهكذا .. دون أن يثبت نفسه نظرية داروين أو فرويد أو غيرها إثباتاً علمياً .
لهذا خرّج لنا هذا النوع من التعليم إنسان يؤمن بالله ويؤمن بفرويد وبداروين وغيرهم . إنساناً يدرك أن كلام الحق حق بنفس القدر الذي يدرك فيه أن يدع ما لقيصر (الحياة) لقيصر وما لله (الصلاة والصيام .. الخ) لله [14].
5 – اللامنهجية التعليمية :
أسلفنا قبل صفحات أن اللامنهجية في التعليم في بلاد المسلمين قد أخرجت جيلاً علماني النزعة يمكن لأي نظام سياسي توجيهه في الخلط الذي يتبناه . ولذا رأينا في عالمنا الإسلامي دول بأكملها تتحول من اليسار إلى اليمين عندما يتغير نظام سائسوها . فمصر الاشتراكية الناصرية تتحول إلى مصر الرأسمالية الساداتية .. وغيرها مثلها .
هذا التسيب الفكري يمكن لأعداء هذه الأمّة توجيهها من بعد بما يسمّى نظرية التحكم عن بعد . والتي تقوم على تغيير النظام السياسي في أي دولة ليقوم النظام الجديد بتغيير اتجاه الدولة نحو المتحكم عن بعد[15] . ولذا ففلسفة الانقلابات العسكرية لم تنجح إلاّ في دول الشرق ، وتصور معي أن انقلاب اشتراكي حدث في فرنسا هل سيغير الشعب الرأسمالي إلى اشتراكي: لا يمكن . فلقد وصل الاشتراكيون عبر صناديق الاقتراع ولم يغيروا فكيف إذا جاءوا بقوة العسكر . إن المسألة مسألة منهج يتربى عليه الطفل الغربي أن ما بيده ملكه إذاً هو صاحب التصرف فيه وينشأ على هذا المنوال بتأصيل مدروس ليتخرج رجلاً رأسمالي الفكر ديموقراطي السياسة[16] .
واللامنهجية لم تنحصر في اختيارنا المنهج بل حتى في طريقة تدريس المقررات . فلقد نشأ الشرقيون على منهج التلقين في نقل المعلومة وساعدت علوم اللغة والشريعة على تثبيت هذا المنهج . في حين أثّر عصر النهضة على الغرب في سلوك منهج التجربة والبرهان في العلوم التجريبية ثمّ تلاها في العلوم النظرية[17] . والمنهجان عبارة عن طريقان يوصلان إلى المعلومة لا أكثر . لكن المشكلة أننا في عصر التخلف في القرون القريبة الماضية قد انحصر أسلوبنا في التعليم على طريقة التلقين بسبب نوعية العلوم التي تدرس في ذلك الزمن ثمّ لما جاء التعليم الحديث ومدارسه وجامعاته استخدمنا طريقة التلقين في تدريس علوم يفترض أن تدرس بطريقة التجربة والبرهان ؛ فلقد درسنا جميعاً أن الماء عبارة عن ذرتي هيدروجين وواحدة أوكسجين ، وكذلك درسنا نمو النباتات ، وكذلك قانون الطفو .. وغيرها كثير ؛ لكننا لم نَدرسهم إلاّ كمعلومة تحفظ ثمّ يأتي الامتحان فتُكتب فيُكتب لنا النجاح . بمعنى آخر أننا لم ندرسها كتجربة في المختبر ولم يطلب منا أن نجربها في منازلنا ، كل الذي طلب أدرس ثمّ أحفظ ثمّ أكتب ما حفظت . ثمّ إن انتهى الامتحان (كما يقول الأستاذ محمد قطب في محاضرته)[18] يمسح الطالب العرق عن جبينه ويمسح معها المعلومات .
في المقابل ذكر لي الأستاذ عبد العزيز إزمرلي[19] أن قانون الطفو الذي درسناه في الصف الأول ثانوي شاهده في أمريكا يدرس لطلاب وطالبات الروضة باسلوب تجريبي جميل ، يقول : ذهبنا إلى الروضة مع باقي طلاب الماجستير في التربية فقامت المعلمة وجمعت الأطفال حول حوض ماء صغير وأعطت أحد الأطفال مسماراً وآخر قطعة خشب وثالث كرة داخلها هواء ثمّ طلبت منهم أن يحافظوا على ما عندهم مغموراً تحت الماء وأن لا يسمحوا لهذه القطع أن تطفو فوق الماء . فنزل المسمار وبعد إصرار نزلت قطعة الخشب لكن الكرة حيرت الطفل وبللت ملابسه وهو يحاول إبقائها تحت سطح الماء. ثمّ عكست التجربة فطلبت أن يحافظ كل منهم على قطعته فوق الماء فعجز الصبي الذي يمسك بالمسمار. بعد عدة محاولات شرحت لهم أن هناك أجسام يمكن أن تطفو وأجسام لا يمكن أن تطفو لوحدها. بهذه البساطة شرحت قانوناً حفظناه ولم نجربه وكنا بذلك على قاعدة بعض الأزهريين عندما لا يفهم أحد طلابهم فيقول له: (احفظ يا بني وبكره إن شاء الله تفهم) . ولذا لا زلنا نعاني من إصرار وزارات التربية في دولنا المسلمة على استخدام قانون واحد للتعليم هو التلقين ثمّ إن وصل الطالب إلى الجامعة حيث التجربة يعاني كثيراً من الانتقال إلى المنهج الجديد .
6 – الموت الحسي :
من السهل على الإنسان أن يدرك أنه مخطئ وقد يعترف بذلك ثمّ قد يسعى إلى تغير وضعه وتصحيح مساره . إلاّ أننا أمّة ندرك أننا تخلفنا كثيراً في التعليم عن باقي الأمم وأن أمم أخرى أقل منا عدداً ولم يكن لها تاريخ حضاري كما كان لنا وقد بدأت نهضتها الحالية بعدنا بعقود وتقدمت وأصلحت مسارها .
والسؤال : لماذا لم نتحرك نحن كما تحركت ، ونصل كما وصلت ؟ .
إنّ قانون التنافس يولد دائماً تقدماً ولو كان بطيئاً وقانون الإحباط يولد تخلفاً وتأخراً ولو كان غير مشاهد . فأمتنا أصيبت بإحباط عجيب جعل عجلة الزمن تسير وتحمل معها دولاً وشعوباً نحو حضارة وتقدم أكثر ونحن ننظر في استغراب فاتحي الثغر تتباطأ بنا أقدامنا وينشل بروعة تقدمهم عقلنا . فاليابان وكوريا وتايوان نماذج لهذا التقدم السريع المذهل في عالم الصناعة برغم انعدام الثروات الطبيعية والمواد الأساسية للصناعة . ويأتي دورنا فننظر إلى هذه التجارب بعين الإعجاب والإكبار ونذكرها في محاضراتنا وكتبنا ونفتح أسواقنا أكثر فأكثر لها لكن لم نفكر يوماً في دراسة تجربتها وإمكانية تطبيقها في دولنا . لم ندرس يوماً كيف يمكن أن نستخدم سلمهم في الوصول إلى أدوار أعلى . لم نعبأ يوماً أننا وهم قد بدأنا سوياً أو أن بعضهم قد كان بدأ بعدنا بسنوات رحلة التعليم والتنوير . كل هذه اللامات لم تجد منا سوى ثغر مفتوح وابتسامة الرضى عن الآخرين .
إنه موت الإحساس في داخلنا أمات فينا حتى الرغبة في تغيير مجتمعاتنا من التخلف إلى التقدم . ما عاد ينبعث في داخلنا أن لماذا لا نكون مثلهم ؟ ، هذه الأموال وهؤلاء العمال وتلك هي الأرض وثرواتها من الحديد والمعادن موجودة في عالمنا الإسلامي ، فأين الروح التي تجمع هذه العناصر لنسعد بغدٍ أفضل . إننا نفخر في عالمنا الإسلامي أن السيارة أمريكية والتلفزيون ياباني والمسجل تايواني والكنب إيطالي وغرفة النوم أسبانية وو .. الخ هذا الفخر بصناعة الآخرين أصبح جزء من روتيننا فأحاديثنا عن السيارة الألمانية وأفضليتها على الأمريكية والتلفزيون الياباني أفضل من الكوري والكنب الإيطالي أفضل من الأسباني، تدل على هذا الموت الحسي الذي نرفل فيه ، فكيف تقوم أمّة وأول عنصر في قانون التقدم مفقود فيها ؟ ، كيف تقوم أمّة وهي تفخر بما عند الآخرين ؟ ، كيف تستغرب أمّة الحديث فقط عن ما أنجزه غيرها ؟ .
7 – العشى العلمي :
إن نظام التعلم بتقسيماته الحالية الابتدائية ثمّ المتوسطة ثمّ الثانوية يتلوها التعليم الجامعي ومرحلتي الماجستير والدكتوراه قد سهّل توزيع المعلومة على مراحل زمنية تتناسب مع عمر الطفل والفتى البالغ ثمّ الرجل ، وكذلك الحال بالنسبة للنساء . هذا التقسيم ينطوي على نظام امتحانات ينقل الطالب أو الطالبة من مرحلة دراسية إلى أخرى بتجاوز ذلك الامتحان . وإلى هنا فالأمر طبيعي لا يحتاج إلى تعليق ، إلاّ أن السلبيات السابقة في المناهج الدراسية وطرق تدريسها فضلاً عن توسع المقررات الدراسية وتضاربها واستخدام أسلوب التلقين في الإجابة على الامتحانات أوجد هدفاً إضافياً للتعليم يطلق عليه تجاوز المرحلة أو الحصول على الشهادة .
فالعلم من أجل التعلم يفترض في الطالب والمعلم انطلاقاً نحو أغوار ما يدرس وبحثاً عن كل ما يتصل به . أما أصحاب تجاوز المرحلة فالهدف هو أن يجتاز الطالب الامتحان بنجاح بصرف النظر عن حجم المعلومة المتبقي في عقل الطالب بعد الانتهاء من الامتحان فضلاً عن نوع الدرجة الحاصل عليها في ذلك الامتحان سواء مقبول أو جيد أو ممتاز ، المهم أن يتجاوز المرحلة : وتجاوز المرحلة برغم هدفيته في عقول الأسر وأبنائها في شرقنا المسلم ، إلاّ أنها تعد وسيلة بتنامي عمر الطفل . وحيث تصبح وسيلة الحصول على الرزق ، فالحاصل على الثانوية فرصته أكبر من الحاصل على المتوسطة في الحصول على وظيفة ، والحاصل على الجامعة فرصته أكبر ، وكذلك الماجستير والدكتوراه . من هذا المنطلق ترسخت في عقولنا الشرقية أن التعليم عبارة عن سلالم توصل إلى وظائف بحسب طول كل سلم . وبذلك أصبح الامتحان هو البعبع الأسري الذي تعلن فيه حالة الطوارئ على مدى أسابيع وأصبحت نتائج الثانوية العامة تعادل في الاهتمام بها من وسائل الإعلام نتائج الانتخابات في دول الغرب . بل أصبح عندنا مهمة صعبة يقال لها حراسة أسئلة الامتحانات من الكشف وتسجيل فضائح كشف الأسئلة في ملفاتنا على أنها امتحان (قيت) فلسنا أقل من الأمريكان إن بارزونا بـ(ووترقيت ، ووايت قيت) بارزناهم بامتحان (قيت) .
هذه العقلية المتخلفة في فهم العملية التعليمية أوجدت لنا ظاهرة العشى العلمي . فالحاصلون على الشهادات يفترض فيهم أن يكونوا قد حصلوا على العلم الذي سطرت من أجله الشهادة ، لكن الواقع يظهر حجم الضعف الكبير في هؤلاء المتعلمين . إنني لا أستطيع أن أدرك كيف وصل طالب إلى الجامعة وهو لا يعرف الإملاء ؟ كيف يتخرج أستاذ جامعي لا يدرك ما يدور في محيط تخصصه اللهم إلاّ ما قرأه عندما كان طالب دكتوراه . كيف يعين مديراً لجامعة لم يمارس التدريس يوماً من أيام حياته ؟ . أسئلة كثيرة توضح أننا نملك أعين نرى بها في نهار الامتحان ثمّ إن جاء ليل الحياة بمشكلاته وآلامه وطلب منا بما لدينا من علم وشهادات أن نبصِّر أمتنا إذا بأبصارنا يعلوها عشى ينم عن ضعف تكويننا العلمي برغم د. و أ. و م. التي نسطرها قبل أسمائنا لتدل على شهاداتنا .
8 – تغيير الكتابة من الأحرف المحلية إلى الأحرف اللاتينية :
بعد نكستنا عام 1924 للميلادية عندما أصدر كمال أتاتورك قرار إلغاء الخلافة أصدر بعده قرارات لتحديث المجتمع ، كان من ضمنها تغيير حرف الكتابة من الحرف العربي المقروء باللغة التركية إلى الحرف اللاتيني . وقد استطاع أن يفرض هذا التغيير في الكيان الحضاري التركي الممتد إلى قرون طويلة في أغوار الماضي بقوة السلاح .
والأمر ليس تغير شكل الحرف أو اتجاه الكتابة من اليسار لليمين بدلاً من اليمين لليسار . إنها فصل أمة كاملة عن كل ماضيها فلقد قام بتصدير المكتبات التركية باللغات السابقة إلى الهند وقام بمنع الطباعة أو الكتابة باللغة القديمة . ولم يزد الأمر على عقدين حتى فصل الأتراك عن ماضيهم قبل لغتهم ، وأصبح وجه تركيا الإسلامي علماني وما عاد يستخدم التركية القديمة إلاّ قلّة من الذين لم تطالهم حمّى التغيير وسجون أتاتورك .
ولقد تابع أتاتورك كثيراً من الدول الإسلامية في تغيير حروفها إلى اللاتينية كإندونيسيا وماليزيا والصومال ونيجيريا وغيرها كثير ، والهم في كل تغير ركوب مركب التقدم باستخدام لغة المتقدمين .
إنّ الخطر فيما فعلت هذه الدول لا يعود إلى تغيير حرف إلى حرف ولكنه فصل تاريخ ودين وتراث وحضارة واستبداله بتاريخ وتراث وحضارة أخرى . إنّ ما كتب باللغات القديمة في هذه الدول لم يكتب في يوم أو سنة أو قرن بل على مدى قرون طويلة، فهو بذلك كم هائل من التراث لا يمكن إعادة كتابته بالأحرف الجديدة في أيام أو سنوات أو قرن . لذلك استسهلت هذه الدول انتقاء ما تحتاجه من تراثها ومن تاريخها بما يخدم توجهها العلماني الجديد وكتبته باللغة الجديدة ثمّ فتحت عنان المطابع لكل جديد في عالم الغرب ليطبع باللغة الجديدة والتي حرص واضعوها على استخدام كلمات ومصطلحات غربية كما هي ، وكتابتها بالأحرف الجديدة . وبذلك خلت الساحة إلاّ من الوافد الثقافي الجديد ونشأت أجيال لا تقرأ في مدارسها إلاّ ما كتب باللغة الجديدة ، وصدرت الصحف وطبعت الكتب التي تكتب بهذه اللغة ؛ فانسلخ الناس عن ماضيهم قبل لغتهم وتشكل مسخ بشري مسلم الاسم علماني الهوية ، كما أنّ لغته تركية النبرة غربية الشكل.
9 – تدريس العلوم بغير اللغات المحلية :
عندما أتحدث مع إنسان عربي أستطيع أن أدرك من حديثه جميع معاني ومقاصد الكلمات دون حاجة إلى توقف أو استدراك لمعنى كلمة تحمل في اللغة العربية عدة معانٍ. فالسياق ومواقع الكلمات ينبئاني لأي معنى قصد . لكن الحال يتغير عندما أتحدث مع آخر بلغة غير لساني الأم . فإدراكي لما يقصد يحتاج إلى استجماع عدة مهارات يفترض أن تكون موجودة فيّ كقوّة لغتي الثانية وإلمامي بمعاني الكلمات وعدد المعاني التي تحملها كل كلمة وسرعة استيعابي . لذا فالاستدراك في هذه المحادثات دائم ووارد .
والعلم وطرق نقله من شخص إلى آخر يخضع أيضاً للقاعدة التي ذكرناها . فكلما كان المعلم والطالب يتحدثان بنفس اللغة كلما كان الاستيعاب أكثر والمعلومة المعطاة أكبر . وكلما اختلفت اللغة بينهما كلما زاد الاستدراك بينهما فالمعلم يحاول أن يستخدم أبسط الكلمات التي يتوقع أن لغة الطالب تحمل مشابهاتها وكذلك الطالب يستخدم عقله مرتين أثناء حديث المعلم ، مرة للترجمة وأخرى لإدراك المعلومة نفسها .
وعندما بدأت فترة التنوير في بداية القرن الهجري الماضي في تدريس العلوم التجريبية في الجامعات ، ولصعوبة الترجمة الكاملة الآتية لمراجع كل علم قررت كثير من دول العالم الإسلامي تدريس هذه العلوم بلغة الدول التي استعمرتهم ، فالطب يدرس بالفرنسية في دول المغرب العربي وبالإنجليزية في مصر والأردن وباكستان وماليزيا ، وكذلك باقي العلوم .
ولذلك أضيف عبئ آخر على الطالب إضافة إلى سنة كاملة قبل الكلية لدراسة اللغة المقرر التدريس بها ، أن يدرس بلغة أخرى غير لغته وأن يفكر بلغة أخرى غير لغته وأن يمتحن بلغة أخرى غير لغته . ولأننا أمّة متخلفة فلم ندرس تجارب الآخرين ، فأوروبا ليس بها لغة واحدة ، وليست كل أوروبا متقدمة ، ولكن كل دول أوروبا تدرس هذه العلوم بلغتها المحلية . وبذلك تختصر جزء من الزمن ، وأهم من ذلك توفر جزء من إجهاد العقل الموجه للترجمة أثناء المحاضرات أو القراءات العلمية إلى استخدامه في شيء أكثر أهمية[20].
إنّ مسألة ترجمة العلم إلى لغة أخرى ليست تجربة وليدة بل التاريخ البشري قائم على هذه المسألة وأجدادنا قد ترجموا علوم اليونان وأضافوا عليها ، وأوروبا ترجمت علومنا وأضافت عليها . بل إن تجربة دول كسوريا والعراق في تدريس هذه العلوم باللغة العربية تجربة رائدة برغم عدم توفير الإمكانات الأساسية للترجمة . والحجج التي يصدرها المترددون في قضية الترجمة كاستحالة ترجمة الدوريات وغيرها كلها قضايا ليست شائكة أو مستحيلة لأن هناك تجارب بشرية عند غيرنا يمكننا الاستفادة منها .
ثانياً : التخلف الإعلامي :
نشأت وسائل الإعلام الحديث كالصحافة والإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح في الغرب بتدرج تطوري امتد في بعض هذه الوسائل إلى قرون حتى أصبحت في صورتها التي عليها الآن (الصحافة) ، وامتدت في بعضها إلى عقود قليلة من الزمن لتصبح في شكلها الحالي (كالإذاعة) إلاّ أن كلا التطورين كانا معايشان من أفراد المجتمع الغربي الذي نشأت فيه هذه الوسائل . فعندما بدأت الرسائل الإخبارية كأول ولادة لمفهوم الصحيفة الحالي في القرن السابع عشر الميلادي في مدينة البندقية ، ثمّ إلى باقي مدن أوروبا عاش الناس هذه البداية بما تحمله من اهتمام بأخبار العالم خارج أوروبا وتركيز على قضايا بسيطة في الأخبار الداخلية . ثمّ عايش الأوروبيون المطبعة ودورها في نقل وتكبير حجم الصحف وتكثير أعدادها ثمّ عايشوا نشأة وكالات الأنباء ودورها في نقل المعلومة من مختلف بقاع العالم بدلاً من انتظار أخبار البحارة القادمين من دول شتى . وكذلك عايش الأوروبيون بدايات المورس واستخدامه في توصيل تقارير المراسلين للصحف ثمّ التلفون ثمّ وسائل الاتصال الحديثة .
هذه المعايشة لهذا المولود الإعلامي جعل الغربي في كل مرحلة خلال القرون الخمسة الماضية يعرف بدايات الصحافة ويعايش تطور المرحلة التي يعيش فيها وبذلك لم يكن شكل الصحيفة ولا إضافة الصور إليها ولا تنوع موضوعاتها ولا تغيير اهتماماتها بالشيء المستغرب لأن هذه التغييرات كانت تأتي بتدرج زمني يتناسب مع حجم التطور الذي تشهده كل مرحلة . وكذلك الحال بالنسبة للمواليد الإعلامية الأخرى فكلها عاش الغربي فترات ولادتها ثمّ نموها إلاّ أن أصبحت في شكلها الحالي .
لكن العكس قد حدث في الشرق عامة وفي شرقنا المسلم خاصة . فالوسائل الإعلامية وصلتنا خلال هذا القرن عدا الصحافة – وهي في ثوبها النهائي . بمعنى أن الراديو قد وصلنا بعد اختراع ماركوني لنقل الإشارة لاسلكياً ثمّ تطويره من قبل علماء وآخرين حتى تم بذلك نقل الصوت والموسيقى من خلاله ، ولم نعايش مرحلة نقل الإشارة فقط ثمّ لم نعايش نقل الموسيقى فقط ثمّ أيضاً لم نعايش نقل الصوت البشري ؛ لذا فقد أتانا جهاز يتحدث ويغني بلغات عدة فما كان منا إلاّ التصفيق لهذا المولود الجديد والرغبة في اقتنائه دون معرفة إمكاناته وطرق استخدامه إعلامياً فضلاً عن بعض شك أوائل المشاهدين له بأن الجان يتحدثون من داخله .
هذا الاستغراب من هذا القادم (الإذاعة على سبيل المثال) أوجد إرباكاً على جميع المستويات السياسية والاجتماعية . فلم يعد المنادي أو جنود الوالي يقومون بدور التبليغ ، ولم تعد قرارات الدولة تحتاج إلى كثير جهد ووقت للتوزيع ؛ كما أن صوت الزعيم في هذه الدول أصبح أغنية الصباح والمساء . وفي المجال الاجتماعي ما عادت حفلات الغناء التي يدخلها علية القوم في أنديتهم أو صعاليك الناس في تخفيهم محصورة عليهم بل أصبح صوت كوكب الشرق والغرب يصدح في البيوت من أدنى الدولة إلى أقصاها وانحسر برقع الخجل عن أولئك الذين تمنوا حضور هذه الحفلات ومنعتهم مراكزهم أو توجهاتهم ، فهذا الوافد يقدم لهم ذلك في خلوتهم في بيوتهم . ولم تفطن دولنا الشرقية إلى خطر الإذاعة إلاّ من خلال الخطر العسكري عندما تستخدم الإذاعات الموجهة ضد دولنا . أما الأخطار الثقافية التي ثبت في ظل دول الاستعمار المطبقة على بلادنا ودورها في تشجيع ثقافة وفكر المستعمر فلم تكن ذا بال عند الساسة . وبرغم أن مخزوننا الأدبي كبير جداً إلاّ أن البدايات لاستخدام هذه الوسيلة ركزت على ترجمة ما يطلق عليه تغريراً الأدب العالمي حيث في حقيقته الأدب الأوروبي . فترجمت مسرحيات شكسبير وغيره وترجمت أعمال وتمثيليات غربية وقدمت بلغة محلية وممثلين محليين لتبدأ لبنات في تكويننا الثقافي المستغرب . فالممثل هو الشخص الوحيد الشرقي الموجود في استديو التمثيل أما المخرج ومهندس الصوت فكل هؤلاء من الشركات المؤسسة للإذاعة من أوروبا .
وحيث أن النشأة كانت هذه بداياتها فقد استمر الإحلال بالمحليين مكان الغربيين في الجانب التقني ، لكن الفكر والاستخدام لهذه الوسيلة مازال منذ وصولها إلينا إلى الآن غربي المسار والمضمون وإن كان الشكل محلياً . ويرجع ذلك في اعتقادي إلى أن هذه الوسائل قد أتتنا مولودة كاملة في بداية فترة التنوير في دولنا حيث الكل منشغل بالتعليم الجديد في المدارس والجامعات والكل يرغب أن يخرج الأبناء عن علوم الشريعة واللغة العربية إلى الطب والهندسة والعلوم . هذا الانشغال أوجد فراغاً في المجال الإعلامي حيث الدول تعتبره أداة ترفيه والشعوب لا ترى فيه مورد رزق كما هو الحال بالنسبة للطب والهندسة . ولذا ترك هذا المجال لمن لا عمل له أو لأفراد من الأقليات الدينية غير الإسلامية في شرقنا المسلم .
فالمتأمل لأوائل الممثلين والكتاب السينمائيين والمخرجين في التلفزيون والسينما والمسرح في العالم العربي[21] يرى أسماء الرواد في هذا المجال للمسيحيين واليهود والأرمن ، فجورج أبيض وماري منيب وجورج سيدهم وعمر الشريف في مصر والرحابانييان ورشيد علامة وميشال ثابت وريمون جبَّارة من لبنان مثال بسيط لما حوته هذه المرحلة من شخصيات موجهة وليست شخصيات عفوية ، فلقد تعلم جيل الرواد الصنعة من الإيطاليين والإنجليز والفرنسيين من خلال الشركات الأولى من هذه الدول الموجودة في بلادنا [22]. وحيث أن الشركة أوروبية ورأس المال أوروبي فالقصة أيضاً أوروبية[23] . فلو كنت من هواة مشاهدة الأفلام القديمة في العالم العربي والغربي فستلاحظ أن كثيراً من القصص تتشابه كثيراً بين فيلم أوروبي أو أمريكي وفيلم مصري أو تركي . كلها تتحدث عن حكايات حب في القصور وتمتلئ بالأغاني الاستعراضية وأغاني الأفلام . الشيء الذي يتغير إضافة الأسماء والأشكال العربية أو التركية محل الأسماء والأشكال الغربية . واستخدمت الموسيقى والأغاني المحلية بدلاً عن الموسيقى والأغاني الغربية .
هذا الأسلوب كان الأكثر شيوعاً حيث كان هناك أسلوب آخر فشل جماهيرياً وإن كانت كليات الفنون الجميلة في شرقنا المسلم تعتبره الأساس وتدرسه ضمن مناهجها ويكون ضمن مشاريع التخرج بالنسبة لطلابها . هذا الأسلوب هو ترجمة مسرحيات وأعمال غربية[24] وتمثيلها في المسرح والسينما كما هي بأسمائها وأغانيها وموسيقاها والتغيير فقط أنها بلغة محلية [25]. ولكن الجمهور المحلي لم يستسيغ روميو وجولييت وغيرها ، وفضل عنها القصة نفسها بأسماء وأشكال وموسيقى وأغاني محلية[26].
ولئن هذه كانت بدايات الإعلام في شرقنا المسلم فلذا تخلفنا كثيراً في استخدام هذه الوسيلة الاستخدام الأمثل . فلقد ورث جيل الرواد هزيمتنا الفكرية في استخدام هذه الوسائل إلى الجيل التالي وهكذا إلى أن جاء عقد السبعينات حيث بدأ الإنتاج المحلي يأخذ دوره في تقديم أعمال منطلقة من الواقع المحلي ومن خلال كتّاب محليين وبرأسمال محلي . وهذا لوحده يعد نصراً في هذا المجال لولا أن الكتاب والجهاز الفني والتسويقي ممن تخرجوا من مدرسة الرواد والمتأثرة بالصياغة الغربية لمفهوم الفيلم أو المسرحية أو التمثيلية التلفازية والإذاعية[27] والتي ترتكز على معرفة رغبات الجمهور ثمّ تحقيقها أثناء العمل الفني بإدخالها ضمن سياق القصة . فمثلاً موضوع الرقص سئل عنه أحد أشهر الممثلين العرب وهو دريد لحام[28] وعن إقحامه في أحد أنجح أفلامه (التقرير) فقال : أعلم أنه أدخل على الفيلم لكن جمهور السينما اليوم أكثره من أصحاب المهن الحرفية والذين يفضلون هذا النوع من الرقص . إذاً فإدخال جسم غريب على سياق القصة كان الهدف منه تلبية رغبة الجمهور ، ولذا حفلت أفلام السبعينات بصور النوادي الليلية والرقص الشرقي والظهور الصارخ لشرب الخمر وما يدور في غرف النوم .
فصحيح أننا نجحنا في تحويل القصص إلى قصص محلية وصحيح أننا نجحنا في تغيير المضمون إلى مضمون محلي إلاّ أن هذه الأجسام الغريبة على القصص أصبحت مدرسة جديدة لا يمكن إنتاج عمل إعلامي دونها أو كما يقولون (الجمهور عاوز كده) .
وعندما وصلنا في أواخر الثمانينات إلى مواكب الإنتاج الإعلامي العالمي (أوتقليده) فقد وجد في دولنا أفلام عجيبة في دول لم يكن متوقعاً في يوم من الأيام أن يصدر عنها مثل هذا الإنتاج . فالمعروف أن دولاً كتركيا والجمهوريات الخاضعة للاتحاد السوفياتي (سابقاً) قد أنتج فيها الكثير من أفلام العري والجنس المكشوف وكانت تعرض في السينما علانية وبحماية قانون الدولة وعساكرها . إلاّ أن مصر مثلاً لا يمكن أن يتصور إنتاج مثل هذه الأفلام فيها (وإن كانت تنتج سرياً) وتوزيعها على مستوى العالم العربي (وإن كان سرياً) . فطبيعة الهجمة العلمانية التي مورست على تركيا وعلى الشعوب المسلمة في ظل الحكم الشيوعي السوفياتي لا يمكن مقارنتها مع علمانية الملك فاروق أو جمال عبد الناصر أو من بعده . فالشارع المصري ظل محافظاً على هويته برغم التغريب .
فإن قال قائل أن مثل هذه الأفلام ينتجها أصحاب الأهواء وعلى غير علم من الدول المنتجة فيها فلا أدري ما سيقوله عندما يرى فيلم مثلت فيه الممثلة آثار الحكيم دور فتاة تحب فتاة أخرى حباً جنسياً وتقبلها أثناء الفيلم فيما يصطلح على هذه الفعلة عند المسلمين بالسحاق (وما ظهر عبارة عن مقدماته) ويطلق عليها في الغرب (Lizbians ) هذا الشذوذ الجنسي يصور علانية في فيلم مصري ويعرض على شاشات السينمات ويترك للنقاد إبداء آرائهم في أن مثل هذه الأفلام تصور واقعاً موجوداً وهو وجود فتيات يمارسن الجنس مع فتيات في مجتمعاتنا وأن هذا الفيلم ليس إلاّ تصوير لمرض موجود كما هو الحال في الأفلام التي تتحدث عن المخدرات والسرقة والرشوة والخيانة الزوجية .
هذا الانسياق وراء الإنتاج العالمي صورته جريدة القبس الكويتية عندما قدمت تقريراً على عدة صفحات عن الشاذين جنسياً من الشباب الكويتي أو ما يسمى بالجنس الثالث . كان ذلك بعد المظاهرة التي قام بها هؤلاء الشباب لمطالبة الحكومة الكويتية بحقوقهن (أقصد حقوقهم) . فلقد صورتهم الجريدة وهم يلبسون ملابس النساء ويضعون الباروكة وأحمر الشفاه .. الخ . وكانت الصحيفة تبرز قضية هؤلاء على أنهم فئة من المجتمع الكويتي لها مشكلة وإن كانت الصحيفة قد بالغت في كثرة صورهم وتوضيح أماكن تجمعهم .
إن إعلامنا في الحقيقة قد بدأ يعاني من أزمة الهوية . فهو غربي المضمون شرقي الشكل محلي اللهجة ، لا يدرك القائمون عليه حجم المسئولية الملقاة على عاتقهم في توجيه أمّة متخلفة . بهتوا بالمواليد الإعلامية الغربية بنفس القدر الذي بهتوا فيه بالأشكال والمضامين في الإنتاج الغربي . أمامهم قيود اجتماعية وبقايا دين في قلوب النّاس لكن بيدهم دعم حكومي ومؤسسات مالية تدعم إنتاجها حتى وإن كان رديئاً من الناحية الفنية. فالمهم أن تدور العجلة وأن يصفق الجمهور وبذلك نضيف إلى جوانب تخلفنا جانباً جديداً هو التخلف الإعلامي .
العوامل التي ساعدت على التخلف الإعلامي :
1 – ظروف وصول الرسائل الإعلامية :
لقد وصلتنا كل وسائل الإعلام كاملة لم نعايش شيئاً من نشأتها أو تطورها فضلاً عن مساهمتنا في توريثها وتطويرها . كل ذلك أدى إلى ضرورة وجود المعلم الغربي ليقوم بشرح طريقة عمل هذه الوسائل وإمكاناتها والطرق التي جربت في الغرب ونجحت في تشغيلها والاستفادة منها . وهكذا ساعد وجود المعلم الغربي في نقل الفكر والثقافة الغربية والنظريات والأدب الغربي من خلال تدريب الجيل الأول من رواد الفن والإعلام في شرقنا المسلم . وبذلك حفظ جيل الرواد الدرس ولقّنوه لمن بعدهم جيلاً بعد جيل .
ومما يؤسف له أن المعلم الغربي لم يكمل درسه فكل ما علمه لأبنائنا هو الشق الفكري في نظرية عمل هذه الوسائل الإعلامية أما الشق التقني فلم يساهم ذلك المعلم في تدريبه لأبنائنا ولذلك ظللنا عالة على الغرب في تقنية هذه الوسائل منذ اكتشافها وحتى يومنا هذا . والغريب أن جميع كليات الإعلام في شرقنا المسلم تدرس الإعلام من الناحية النظرية أو الإعلام التطبيقي كالإخراج والإضاءة .. الخ في كليات الفنون الجميلة ، أما الجانب التقني فلا أعرف جامعة واحدة في شرقنا المسلم تدرس هذه الحرفية وتخرّج من يستطيع المساهمة في تطويرها .
وبذلك تخلفنا في الجانبين التقني حيث لم نساهم في اكتشاف أو تطوير هذه الوسائل والفكري حيث أصبحنا مقلدين لكل ما ينشر ويصور ويكتب . فالمصطلح تتناولة الصحافة الغربية بين أوراقها فنجده بعد أيام وقد ترجم في صحافتنا بلغتنا المحلية، والتمثيليات بكل أنواعها وأفكارها تعرض علينا مدبلجة أو مترجمة بشخصيات محلية . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث قال : (حتى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم)[29] .
2 – جيل الرواد :
في كل بلد في هذا العالم الفسيح ينبري مغامرون أوائل لتجربة كل جديد في جميع المجالات السياسية والعسكرية والإعلامية وغيرها . ونطلق على هؤلاء جيل الرواد ، والمصطلح يعني أنهم جيل الرواد من جانبنا نحن وليس من جانب المجال نفسه ، فجيل الرواد في الإعلام في بلادنا متأخرين زمنياً بعدة عقود في بعض الوسائل (كالتلفزيون والإذاعة) وبعدة قرون (كالصحافة) عن جيل الرواد في الغرب والذين اكتشفوا هذه الوسائل وجربوها .
وعادة ما يكون جيل الرواد محاكياً في بداية الأمر ثمّ يستقل بعد ذلك بنموذجه الخاص المنطلق من بيئته وتراثه وتاريخه[30] . وبذلك يجمع هذا الجيل بين جدة الوسيلة وأصالة المرسل . وجيل الرواد في شرقنا المسلم قد ساهموا في نقل هذه الوسائل إلى أذهان وعقول شعوبنا محاكين في ذلك المعلمين الغربيين والأدب الغربي . وقد كان المفروض أن تكون هذه المحاكاة فترة تدريب يخرج بعدها جيل الرواد بفن المسرح والسينما والراديو والتلفاز والصحيفة ثمّ يضيفوا عليه تاريخنا وأدبنا وتراثنا ، فتحصل النتيجة المتوقعة من الإعلام الهادف الذي يخدم قضايا الأمّة ومصيرها .
لكن فترة المحاكاة طالت وزاد التمسك بها حتى أصبحت مدرسة جديدة غربية المضمون محلية الشكل . وهكذا لقّن جيل الرواد الأجيال التي بعدهم أن قُبلة الرجل للمرأة في الفيلم عبارة عن تمثيل وأن الاستلقاء على الشاطئ بالمايوه وافتعال حركات جنسية لا يخرج عن دائرة التمثيل بل حتى الفيلم يصور للجمهور كيف يتعاطى الشباب المخدر وأين يضع الإبرة ، أيضاً تمثيل لا ينبغي أن نعطيه أكبر من حجمه فالممثلة إنسانة متزوجة محترمة تقدر زوجها المخرج أو المنتج وما تقبيلها لزميلها الممثل إلاّ شرح وافي لما يدور في البيوت.
ولذا ما عاد يدخل هذا المجال من يعرف القيم ويحب الدفاع عنها . فالقائل بذلك يفسر الشيء على غير أصله الفني الذي درّسه المعلمين الغربيين في كليات الفنون لجيل الرواد . وبذلك أصبح مجال الإعلام بعيداً عن الأفلام الهادفة والنفوس الوطنية التي تجمع بين حب الوطن وتراثه وتاريخه مع تحديث وسائل الاتصال بالجمهور . وانظر إلى صحف اليوم وفناني اليوم وأفلام اليوم تجدها تدور في إطار الدرس الأول الذي لقنه المعلم الغربي للجيل الأول أن فرقوا بين التمثيل والكتابة للجمهور وبين ما تؤمنوا به من أفكار وتراث ومانشأتم عليه من عادات وتقاليد . فهذه الوسائل وهذا كتالوج استخدامها ترجموه إلى لغتكم .
3 – الجانب السياسي :
إن من يفصل بين الإعلام والسياسة كمن يفصل بين الاقتصاد والسياسة . فالنظام الإعلامي تعبير صادق عن النظام السياسي للدولة . فلا يمكن أن تكون دولة ديموقراطية ونظام اقتصادها حر ويكون إعلامها مأمم . كما لا يمكن أن تكون لقمة العيش وأماكن عمل الشعب ومرتباته توزع عليهم من خلال الحزب الحاكم وفي نفس الوقت توزع معها حرية في الصحافة وفي الإذاعة والتلفاز . فهذه المعادلات غير قابلة للكسر اللهم إلاّ في مدعي الديموقراطية الذين أمموا الصحف والتلفاز والإذاعة ؛ فهؤلاء ليسوا عناصر صحيحة في المعادلة ولذا لا يمكن القياس عليهم .
ودولنا العربية على سبيل المثال قد حارت في مصطلح الإعلام الغربي المولد كيف يترجم إلى العربية . فـCommunication تعني بالترجمة الحرفية اتصال[31] . بمعنى أن هناك مرسل ومستقبل ورسالة ووسيلة ، ولا تتم عملية الاتصال إلاّ بالحوار بين الطرفين المرسل والمستقبل . ولذا لا يسمى اتصالاً كاملاً إن كان الاتصال من طرف واحد يتولى عملية الإرسال فقط وطرف آخر يتولى عملية الاستقبال فقط ، ففي هذه الحالة يسمى اتصالاً ناقصاً أو إخبار أو إعلام .
وحيث أن أنظمتنا السياسية في بداية هذا القرن الميلادي كانت من النوع الأحادي الاتجاه في اتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات فكان لذلك لزاماً أن تترجم Communication إلى إعلام أو معلومات بدلاً عن اتصال . فالواقع السياسي لم يكن يحتمل قيام رأي آخر من خلال وسائل الإعلام وإن كان رأي الشعب نفسه . فالقيادة والسياسة في تركيا على سبيل المثال متقدمة نحو العلمنة وإن كلف ذلك أرواح بضعة آلاف من العلماء والمفكرين ، وكذلك المستعمر لعالمنا العربي لا يمكن أن يوافق على وجود وسائل إعلام مستقلة يملكها أفراد أو مؤسسات شعبية حتى لا تساهم في إخراجه من شرقنا العزيز . وقد تآمر معهم الحكام الذين كانوا يحكمون الشرق العربي تحت الانتداب أو قُل الاستعمار البريطاني والفرنسي .
وبذلك لقنت الشعوب أسماء هذه الوسائل ودورها المحدد كأبواق تحمي السلطة السياسية . وبرغم أشكال الانقلابات وأشكال العناوين التي تسطر قبل أو بعد اسم الدولة الشرقية كالديموقراطية أو الشعبية إلاّ أن الإعلام ظل ملكاً خاصاً للنظام السياسي في كل قطر . وتعتبر وزارة الإعلام ووزيرها من أهم الوزارات في الدول الشرقية . ولا أظنك تعجب من أهميتها عندما تعرف أن كل انقلاب في دولنا المشرقية كانت تنقسم فيه الدبابات إلى قسمين : قسم يهاجم القصر الجمهوري والقسم الآخر يهاجم الإذاعة ليعلن نبأ الانقلاب . وهكذا جعلت دولنا المشرقية تأميم الإذاعة والتلفاز أداة دعاية واستخدمتها كبوق للنظام السياسي .
فأحادية التوجيه في دولنا جعلت المالك لهذه الوسائل قادراً على إملاء ما بدى له من خلالها[32] حتى وإن كان شرحاً لكتاب لا يفهم أوله من آخره أو حديثاً أسبوعياً لرئيس دولة عربية يمتد أكثر من خمس ساعات في بعض الأحيان . هذا التخلف في تضخيم حجم وسائل الإعلام من خلال أحادية السيطرة عليها جعل المقربين فقط من النظام السياسي مؤهلين لقيادة هذه الوسائل وإن كانت خبرتهم في أقصى الشرق وهذه الوسائل في أقصى الغرب فالمهم أن تظهر صورة الزعيم كل يوم وأن يدرك الناس أن دولتهم أفضل ما وجد على هذا الكوكب برغم الفقر الذي تعانيه في بعض هذه الدول الآسيوية والإفريقية . والمهم أن يسمع الناس ويقرءوا ولا يهم أن يتكلموا أو يكتبوا . هذا الأسلوب المجحف قتل المواهب وكسف شموس الفكر والمعرفة عن هذه الوسائل وفتح المجال للمنافق الوصولي وبائع الهوى ، وبذلك تخلفنا من خلال أحادية السياسة التي ولدت أحادية الإعلام وتحول الدور المؤمل من الإعلام إلى دور ترفيهي أو تطبيلي . وقد خسرنا بذلك حتى الخبر الصادق عن دولنا فضلاً عن جيراننا وحلفائنا بسبب تدخل النظام السياسي في اختيار نوعية الأخبار التي تنشر وما يجوز وما لا يجوز . وقد صدق فينا قول الممثل السوري دريد لحام عندما قال في إحدى مسرحياته[33] (افتح على لندن لنعرف ما يحدث عندنا) .
4 – رؤوس الأموال :
إن كان المال عند أهل الاقتصاد هو عصب التجارة ، فهو للإعلام ووسائله الروح التي لا يقوم إعلام بدونها . إن الإعلام عبارة عن أموال توظف لتحويل فكرة إلى مشهد تمثيلي أو مقال في صحيفة ؛ وحتى تتم عملية التمويل ينبغي استخدام أجهزة وآلات غالية الثمن وبناء مراكز وأبنية كبيرة الحجم واستخدام أنظمة معقدة التكنولوجيا ، وهذا كله في جانب ليس بالكبير مقارنة باستخدام كادر بشري كبير في عدده محدود في تخصصاته . وبالنظر إلى أي فيلم أو صحيفة أو كتاب تعريفي عن شبكة تلفزيون أو وكالة أنباء يمكن لنا أن نرى حجم العاملين في هذه المراكز الإعلامية . ولذا فكلما توفر المال تحسن الإنتاج ووصل إلى مسافة أبعد وتُرجم إلى لغات أكثر والعكس صحيح ، فكلما شحّ المال ساء الإنتاج وبالكاد يصل إلى الجمهور المحلي .
ويبدوا أن ما قيل عن اليهود وإصرارهم على امتلاك هوليود من خلال تمويل الأفلام وامتلاك شركات الإنتاج الكبرى أمر صحيح وإن بولغ فيه .
وعندما عرف اليابانيون قواعد اللعبة وقاموا بشراء اثنين من أكبر الشركات السبع المنتجة في هوليود (كولومبيا ويونيفيرسال ستديو) بدأ الأمريكان يتحدثون عن هجوم ثقافي ياباني قادم من خلال هاتين الشركيتين .
فالتمويل الضخم يمكن أن يخرج فكرة تافهة إلى فيلم عظيم لا تتحدث عنه أمريكا وحدها بل أصداءه في صحف وتلفزيونات العالم أجمع . فالفيلم والمغني والكاتب في الغرب تعتمد شهرته على حجم المال المنفق في الدعاية له والكتابة عنه . وهكذا يصبح كتاب المغنية مادونا (الجنس) والذي لا يعدو صفحات مصورة لها في أوضاع عارية تماماً سبباً في أن تؤجل قناة BBC1 البريطانية إقفال برامجها لمدة ساعة لأن الكتاب سيوزع الساعة الثانية عشرة والنصف ليلاً . وتحضر مجموعة ممن يطلق عليهم تجاوزاً نقاد ليبدوا رأيهم في هذا الكتاب . هذا التأجيل لقناة مثل BBC1 يعطي دلالة على أهمية المغنية بالنسبة للجمهور وأهميتها بالنسبة للقناة التلفزيونية والأهم من ذلك لحجم الدعاية الضخم الذي سبق نزول الكتاب لعدة أشهر .
وإن نظرنا إلى بدايات صناعة الإعلام في دولنا المشرقية فنجد أن رؤوس الأموال الأولى التي وظفت للأفلام السينمائية كانت من شركات إيطالية[34] وفرنسية وبريطانية[35] ، أما في مجال الإذاعة والتلفاز فقد كانت رؤوس الأموال حكومية . والصحافة هي الوحيدة التي خرجت عن التمويل الحكومي والأجنبي – إلاّ بعضها – ، ولكنها حكمت بمقدرة أصحابها في شراء الورق والآلات ودفع الضرائب للحكومات .
وهكذا بدأ إعلامنا المرئي والمسموع حكومي أو أجنبي التمويل ولم يخرج بذلك عن دوائر التخلف السالفة الذكر ؛ فإما أن يتحول إلى ببغاء بلغتنا المحلية تحكي لنا أدب الغرب وتراثه وعاداته وإما أن يكون سماعة إضافية لسماعات الميكروفون يستخدمه النظام السياسي الاشتراكي لتصوير الإقطاع على أنه سبب الهلاك للشعب وأن الرحمة في أن يتشارك الفقراء في اللقمة الواحدة التي يحصلون عليها من طابور الجمعية . ثمّ لما يتغير النظام الاشتراكي إلى رأسمالي تتحول السماعة لتطربنا بديون الغرب الإنمائية وديون الغرب الاستثمارية وديون الغرب اللانهائية ؛ ومن هنا يظهر ضعف الهدفية في هذه الوسائل .
أما بالنسبة للصحافة الممولة ذاتياً من أفراد فلقد شهدت قوة في الطرح ووطنية في الفكر وعمقاً في التناول . لكن ضعف رأس المال المستخدم جعل وريقاتها قليلة وتوزيعها محدود وأعبائها المالية كبيرة وبذلك أصبحت أعمارها قصيرة . ولك أن تنظر إلى صحافة الأربعينيات والخمسينيات من هذا القرن الميلادي لترى صدق ما ذكرت . ولما قلت في الساحة الصحفية ذاتية التمويل تدخلت الحكومات بإنشاء شركات القطاع العام لتمويل الصحف الحكومية المسار ، وبذلك ضمنت إضافتها إلى طابور الإعلام الحكومي في الدول الاشتراكية . وفي غيرها ترك للمقربين من السلطة السياسية وكبار رجال الأعمال أن يمولوا هذه المشاريع الإعلامية . ولأن مصالح هؤلاء مرتبطة عضوياً بالنظام السياسي ، سارت هذه الصحف مسار الصحف الحكومية .
5 – كليات الإعلام :
عندما أنشأت أقسام الإعلام ثمّ كليات الإعلام في مصر وتركيا ثمّ باقي دول العالم الإسلامي ، كان الدافع من وراء ذلك تخريج كوادر وطاقات بشرية محلية لتحل محل المعلم الغربي والمهندس الغربي الذي أتى مع وسائل الإعلام من خلال عقود الشركات المنشأة لهذه الوسائل في بلادنا . لكن الخطر الذي أردنا إزالته من بلادنا وقعنا فيه وبصورة أخطر. فلقد كان الهدف إخراج الغربي وإحلال المواطن محله ، لكن تخلفنا التعليمي صيرنا إلى نقل صورة كاملة لما يدرس في كليات الإعلام في الغرب بلغتنا المحلية ؛ الأمر الذي جعل المتخرج من هذه الكليات لا يعرف عن الإعلام إلاّ ما درسه من نظريات وسياسات وأساليب إعلامية كتبت من خلال معايشة المجتمع الغربي وللمجتمع الغربي .
فنظريات كالمسئولية الاجتماعية وغيرها نشأت في ظل ظروف أوروبية لم تتوفر أسبابها في بلادنا . والإعلام الحر أيضاً نشأ في ظل هيمنة التيار العلماني الديموقراطي والذي يسعى للحرية من كل شيء بدءً بالدين وحتى نظام الحكم ، وبذلك وصلنا إلى نتيجة خطيرة ، تخريج أعداد من الكوادر المحلية اللغة والاسم والغربية الفكر والتعليم والتصور .
وهكذا وعلى مدى عقود من الزمن خرجت هذه الكليات طلاباً جامعيين يمارسون العملية الإعلامية من خلال هذه المفاهيم التي درسوها . وطلاب ماجستير ودكتوراه يأصلون هذه الأفكار والمفاهيم من خلال إجراء دراسات على مجتمعاتنا تؤكد هذه النظريات أو تنفيها .
وإنّ من المؤسف أن علاجنا لهذا التخلف كان أشد تخلفاً ؛ فلقد قامت بعض الجامعات بدءً بالأزهر وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بإنشاء أقسام الإعلام الإسلامي . محاولين بذلك أسلمة هذا المجال العلمي وتأصيله من خلال المنظور الشرعي الإسلامي . وحيث أن المساهمة الإعلامية كانت خالية من المتخصصين في هذا المجال والمتحمسين لموضوع الأسلمة ؛ فقد إنبرى لهذا المجال الشرعيين والدعاة المتحمسين . واستخدم هؤلاء نفوذهم في الجامعات الإسلامية وقرروا تركيز المعدل الشرعي في حجم المواد المدرسية لطلاب المرحلة الجامعية .
وبذلك أصبح في بعض أقسام الإعلام معدل المواد الشرعية 40% و 60% للمواد الإعلامية ومتطلبات الجامعة والكلية والقسم . والتخلف كمن هنا في شقين :
الأول : أن المواد الشرعية التي قررت على طلاب الإعلام ليس لها أي علاقة مباشرة بموضوع الإعلام . فالطالب الذي يدرس الفقه ابتداءً من باب الطهارة ثمّ يختم العام الدراسي بباب الجنائز لا يمكن أن يتغير فكره الإعلامي الغربي والذي يدرسه في مواد الـ60% الأخرى . وكذلك الطالب الذي يدرس مصطلح الحديث وبدايات نشأة علم التفسير أيضاً لا يمكن أن يأسلم إعلاماً غربياً يدرسه في محاضرات تالية . لا أدري كيف فات على هؤلاء الفضلاء الذين سعوا في موضوع الأسلمة أن يدركوا أن المنهج المقرر لطالب الدعوة في المواد الشرعية لا يتناسب مع المنهج المقرر على طالب الإعلام . لماذا لم يفكر هؤلاء في تدريس الفقه من جانب المسائل التي تتعلق بالمسألة الإعلامية ، كظهور المرأة والموسيقى وضوابط القذف واتهام الآخرين في الصحافة وموضوع نشر أو عدم نشر الجريمة والتحقيقات الصحفية ودورها في الدخول في حياة الآخرين الخاصة والصور وحكمها .. الخ .
بل لماذا لم يتم التركيز على ألف باء الفكر الإسلامي ومنطلقاته ومدارسه وممارساته القديمة والحديثة حتى تكون قاعدة لمنطق الأسلمة لماذا لم يركز في تدريس المواد الشرعية على قضية الضوابط الشرعية في التعامل مع الوسيلة الإعلامية . ولازلت لا أدري لماذا لا تدرس نظرة الإسلام للمجتمع والرجل والمرأة والطفل والنظرة إلى السياسة والترفيه والفكر والحرية والمشكلات العالمية والقضايا الكونية وغيرها لتكون بذلك قاعدة أولية لنظرية إعلامية إسلامية .
الثاني : أن بعض المتحمسين ممن تخرج أو درس في هذه الأقسام أصبح لديه هاجس يسمّى الإعلام الإسلامي[36] . فبدأ هؤلاء البحث عن تطبيقات إعلامية وجدت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولبَّسوها لباس الإعلام ليجعلوا منها نقطة الارتكاز في الإعلام الإسلامي . وفترة الثمانينات في هذا القرن الميلادي شهدت عشرات من هذه الكتب ورسائل الماجستير والدكتوراه التي تحمل مثل هذه العناوين . ونسي هؤلاء أن المسألة ليست في التطبيقات ولكن المسألة تكمن في النظريات التي توجد التطبيقات . فما الفائدة في التدليل على أن من أسس الإعلام الإسلامي استخدام الرسائل وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استخدمها . ما هو التغير الذي يمكن أن توجده مثل هذه المعلومة في سلوكنا الإعلامي . إن الرسائل قد استخدمت منذ كتابة التاريخ البشري وستظل تستخدم ، ولا فرق إن استخدمها خير خلق الله أو شرهم . إنّ المسألة الحقيقية هي مضمون الرسالة وليس طريقة إرسالها ، وهو الشيء الذي غفل عنه الدارسون والمتحمسون لموضوع الأسلمة . ولذا وجدت الكثير من الترهات في كتب هؤلاء ورسائلهم مثل أيهم أشمل الإعلام أم الدعوة وهل الرسول صلى الله عليه وسلّم رجل دعوة أم إعلام[37] .
ومما يؤسف له أن كلا الفريقين لم يقدموا إعلاماً إسلامياً بل وضعوا صور جديدة من تخلفنا الأكاديمي حيث نناقش التطبيق على أنه أساس ونظرية. ونناقش السلوك الإعلامي الغربي في محاضرات الإعلام ، في حين نناقش باب الطهارة في محاضرات الفقه . ويدخل أستاذ الإعلام ليشرح أن الإعلام يقوم على ما قاله فلان وفلان وفلان من أوروبا وأمريكا، ثمّ يدخل بعده أستاذ المواد الشرعية ليقول أن الحديث والفقه والتفسير قد جمع في عصر كذا وعلى يد هذا وذاك . خطان متوازيان لا يلتقيا في هذه الأقسام إعلام غربي ومواد شرعية فيخرج الطالب بعناصر غير قابلة للخلط في ميدان الإعلام . وإليك هذه الحادثة لتعرف عمق التخلف الذي وقعنا فيه :
في لقاء مفتوح بين عميد المعهد وطلاب قسم الإعلام والدعوة في المعهد العالي للدعوة الإسلامية بالمدينة المنوّرة عام 1405هـ يقف طالب في السنة الثانية من مرحلة الماجستير تخصص إذاعة وتلفزيون ليسأل عميد المعهد عن حكم التصوير هل هو جائز أم لا ؟ .
نظر إليه عميد المعهد نظرة حسرة ، وقال له أنت الآن على وشك التخرج من مرحلة الماجستير في الإذاعة والتلفزيون بمعنى أنك مارست التصوير على الأقل مدة سنتين ، ثمّ تأتي لتسأل الآن عن حكم التصوير ؛ كان من المفروض أن تسأل هذا السؤال قبل دخول المعهد إن كنت لا تعرف الحكم .
ومن الأخطاء التي وقعت فيها بعض كليات الإعلام في شرقنا المسلم عدم التفريق بين الإعلام التطبيقي والإعلام التنظيري . ففي الغرب هناك كليات إعلام تخرج متخصصين في إدارة المؤسسات الإعلامية والتخطيط لها ورسم السياسات ووضع البرامج. وكذلك هناك معاهد متخصصة في تخريج المطبقين للعملية الإعلامية كالمخرجين والممثلين والمصورين ومهندسي الإضاءة والصوت والديكور .. الخ .
في بعض الدول كتركيا ومصر وجدت معاهد تطبيقية كمعهد المسرح والسينما والمعهد العالي للموسيقى ، لكن في باقي الدول سادت كليات الإعلام ولم يوجد لها سند تطبيقي من المعاهد المتخصصة ؛ فالمتخرج من كليات الإعلام هذه لم يطبق التطبيق الكافي ليؤهله للعمل مباشرة في صحيفة أو إذاعة أو تلفاز أو مسرح بل هو حامل لقطره من كل علم ، جزء نظري وساعات تطبيقية في الاستديو ومادة في أساليب التقديم الإذاعي وأخرى في التخطيط البرامجي وثالثة في الإخراج الصحفي . ولذا ظل هؤلاء المتخرجين غير مرغوبٍ بهم في الصحف أو الإذاعة أو التلفاز . فالعاملين في هذه الوسائل من الذين مارسوا العملية الإعلامية بصرف النظر عن شهاداتهم من الأقسام الأخرى غير الإعلام . وظل خريج كليات الإعلام تحت التدريب في هذه المؤسسات بحسب كفاءتهم ورغبتهم في التعلم وبحسب صبر القائمين على هذه المؤسسات عليهم .
6 – كليات الفنون الجميلة :
كما ذكرنا قبل قليل أن دولاً محدودة كمصر وتركيا ولبنان وجدت بها كليات ومعاهد تطبيقية لتخريج الكوادر الإعلامية والميدانية . وقد كانت بدايات هذه الكليات على شكل رغبات من أتاتورك والخديوي وغيرهم في نقل الفن الغربي إلى الشرق المسلم بتدريب كوادر محلية . ولذا فنجد أن معاهد الباليه ومعاهد الموسيقى لم تكن تعمل على أن تحافظ على التراث الفني المحلي ، وإنما تقوم بتدريب الفنانين والفنانات على الرقص الغربي في الشكل والمضمون وعلى موسيقى بتهوفن وتشوشسكي وباخ وغيرهم لتخرج بذلك فنانين قادرين على محاكاة الفنانين الغربيين ، كيما يرضوا أذواق الطبقة العليا في المجتمع والتي تغربت حتى في الفن[38] .
والذي يؤكد ما ذهبت إليه أن عمر هذه المعاهد طويل لكنها لم تخرج بنفسها إلى المجتمع ولم تجعله جزء من فن الشارع المصري أو التركي بل ظل حبيس الفئة التي أحبته وسعت لإنشائه . وإن كانت معاهد الموسيقى قد نجحت حينما خصصت دراسات للموسيقى المحلية وطرق تطويرها في الحفاظ على التراث الموسيقي المحلي .
وهذه المعاهد كغيرها أنشأها وقام بالتدريس فيها معلمون غربيون إيطاليون وفرنسيون وإنجليز وروس وغيرهم . ولأن هذه المعاهد مرتبطة مالياً ومدعومة معنوياً من النظام السياسي وخصوصاً من شخص الرئيس فقد ترك لهؤلاء المعلمين تدريس الصنعة بالطريقة الغربية . فقد ذكر لي أحد الخريجين من كلية الفنون الجميلة في مصر أن قسم الرسم حتى عام 1979م كان يوفر من ضمن تدريب رسم الإنسان فتيات تقف الواحدة منهن في المرسم عارية تماماً ليقوم الطلاب والطالبات برسمها . وفي لبنان أيضاً ذكر لي أحد الأصدقاء[39] أنه أحضر مرة رجل ليقوم بدور (المودل) ليقوم الطلاب برسمه فلما تعرى خرجت بعض الطالبات احتجاجاً وإن كن لم يخرجن لما تعرت الفتيات . ولما سئلت خريج الكلية المصرية السابق عن سبب وجود هذه العادة السيئة في الكلية برغم وجود الأساتذة المصريين في الكلية فذكر لي بأنها عادة وجدت مع المنشئين الأُول للكلية من الإيطاليين ثمّ إنها عالمياً موجودة في الدول الغربية .
تصور معي كيف سيتخرج رسام أو مجموعة من الرسامين تدربوا على أن يجتمعوا لرسم فتاة من جلدتهم تقف عارية تماماً أمامهم ثمّ تطلب مشاريع فردية أو مشاريع مواد فيقوم الطالب باستئجار فتاة ويعريها في بيته (مرسمه) ليرسمها . كيف يمكن لهؤلاء أن يرسموا فناً سليماً يخرج للمجتمع ليرفع من ذوقه وفنه . أرجو أن تتخيل معي حجم التخلف في تعلمنا للفن بالطريقة الغربية وكيف أن أساتذتنا المحليين صاروا يطبقون الوصفة حتى في التعري .
وما ذكر عن معاهد الرسم والموسيقى ينطبق على معاهد المسرح والنحت والسينما والرقص الشرقي والباليه وغيرها[40] . إنها عمق جديد من أعماق التخلف أن يصل تخلفنا إلى الفن المتعلق بالحس والشفافية والذي يفترض أن لا يكون إلاّ تعبيراً صادقاً عن مكنونات النفس . إنني لا أتحدث عن حقبة تاريخية مضت وأحاول دراستها ولكني أتحدث عن امتداد مازال جزء منه إلى اليوم يمارس على مرأى ومسمع المفكرين والأدباء والوطنيين والسياسيين ورموز التوجيه .
ثالثاً : التخلف الاجتماعي :
بعد أن درسنا التخلف التعليمي ومسبباته وآثاره على مجتمعاتنا الشرقية ، ثم التخلف الإعلامي ودوره في إعادة تشكيل العقل الشرقي ليصبح غربي المضمون والشكل ، يمكن لنا أن ندرس الآن التخلف الاجتماعي الذي نتج عن التخلف التعليمي والتخلف الإعلامي.
إننا كمجتمع شرقي تتكون تركيبتنا السكانية من مجتمعين ؛ حضري وبدوي، والمجتمع الحضري المنتشر في المدن من أقاصي أندونيسيا إلى طنجة في المغرب عبارة عن خليط بشري يرتبط اجتماعياً بالأحياء أو الحارات والتي تعد النواة لكل مدينة شرقية . أما المجتمع البدوي فسواء كان على شكل قبائل رحل أو هجر أو قبائل مقيمة فهو أكثر ترابطاً بسبب النسب ودور شيخ القبيلة ووجوهها في جمع كلمة القبيلة .
وفي هذا الجزء من الدراسة أود التركيز على أثر التقسيمين السابقين على مجتمعاتنا من الناحية الاجتماعية دون الخوض في التأثير السياسي لهذين التقسيمين ، وسيتركز البحث على جانبين لها ارتباط بموضوع الدراسة .
1) تقسيم المجتمعات المسلمة إلى إقليميات ولغات وما سببه ذلك من تخلف :
ليس غريباً أن تنقسم مجتمعاتنا إلى حضرية وبدوية ، فكل شعوب العالم تعيش هذا النوع من التقسيم مع فارق مهم أن نسبة هذا التقسيم في تركيبتنا السكانية أكبر بكثير من نسبة وجوده في المجتمعات الغربية، إنما الغريب أن يتجذر الارتباط بأحد المجتمعين الحضري أو البدوي وأن يصبح الانتماء إلى أحدهما يطغى على كل انتماء ديني أو لغوي أو جغرافي. ولم يظهر أثر هذا الإنجراف إلى أحد الوحدتين إلا بعد بداية القرن الهجري الماضي بعد أن ضعفت الدولة العثمانية . والتاريخ قد ذكر لنا نماذج من الانفصالات السياسية خلال الدول الأموية والعباسية والعثمانية سواء كانت على شكل مناطق أو دول ، لكنها لم تصمد ولم تكن ذات أثر اجتماعي مهم لأنها ركزت على مواقع سياسية وتركت البنى الاجتماعية كما هي مرتبطة بتراث الأمة ومبادئها . فالدولة الأموية في الأندلس ودول الطوائف وغيرها كثير ما كان الهدف الأساسي إنفصالاً سياسياً وليس له جذور اجتماعية بفكر المجتمع الحضري والبدوي أو مجتمع هذه اللغة ومجتمع تلك اللغة .
ويخطئ البعض عندما يظن أن كمال أتاتورك عندما رفع لواء الطورانية كان بداية التقسيم الاجتماعي من حيث اللغة ؛ فأتاتورك قد كان ثمرة لشجرة نمت على مدى قرون من التخلف والبعد عن روح الإسلام ، فلقد أثر انخفاض التعليم وزيادة الأمية خلال القرون الأخيرة من حكم الدولة العثمانية على فهم الناس لدينهم وتراثهم . كما أثر فشل الدولة العثمانية في اعتماد العربية كلغة رسمية للدولة إلى تعميق الفرق بين التركي العثماني والعربي العثماني والهندي العثماني والإفريقي العثماني .
فالعربية كانت لغة الدولة الرسمية خلال الدولتين الأموية والعباسية . والتركيز على قضية اللغة في صياغة الشعور أمر لا جدال في أنه من أهم العناصر في تجميع البنى الاجتماعية وتنسيق مفاهيمها وتوجيه كوادرها . فالدولة التي يتورث أبناءها عدة لغات لا يمكن أن تترجم جميع تراث ومفاهيم وعادات أبناء اللغة الواحدة إلى اللغات الأخرى . فهناك حاجز الترجمة وحاجز التعبير عن المعاني ؛ فلكل لغة أساليبها اللفظية في التعبير عن المعاني . ولذا حرصت جميع الدول التي غزت غيرها بما فيهم المسلمون وأوربا خلال فترة استعمارها ، وعندما طرد الأسبان المسلمون من الأندلس وأيضاً روسيا عندما فردت بساطها على الجمهوريات المسلمة في آسيا ، كل هؤلاء حرصوا على فرض لغة واحدة لتكون بتعبيرهم اللغة الرسمية للدولة .
ومن خلال فرض اللغة الرسمية تم إنشاء عشرات ومئات المعاهد والمدارس لتعليم اللغة الجديدة وعلى مدى أجيال ممدوة استطاعت دول فرض لغتها واخفقت أخرى في ذلك لأسباب اجتماعية أو عدائية أو سياسية .
ومما نجحنا فيه نحن المسلمون أن أصبح الراكب من حدود الصين إلى إشبلية ومن البوسنة إلى تنـزانيا يتحدث العربية أينما حل ودونما حاجة إلى مترجم . وبذلك ساد فكر واحد وذابت العرقيات والقبليات في هذا الفكر . ولم يلغي المسلمون اللغات المحلية ولم يلزموا أهلها بتغييرها كما فعل المستعمر في الجزائر بل فرضت العربية نفسها كلغة العلوم والثقافة والفكر للمواطن في دولة الإسلام . وبذا كسبت مكانة عظيمة في قلوب المثقفين من أبناء البلد وغيرهم من الطلاب الذين قدموا لجامعات طليطلة وإشبيلية وغرناطة. ولتقريب المسألة يمكنك الآن ملاحظة اكتساح اللغة الإنجليزية مجتمعات العالم لتصبح لغة العلوم والثقافات حتى أن دولاً عدة تدرس جامعاتها الطب والهندسة وغيرها من العلوم باللغة الإنجليزية برغم أن اللغات المحلية لا تربطها أي صلة قرابة بالإنجليزية أو أهلها .
ولما فشلت الدولة العثمانية في فرض لغة واحدة تركية أو عربية فتح الباب للغات المحلية لتنمو وتتجذر في قلوب وعقول أبنائها . ولأن بعضها لم يستخدم لفترات طويلة خلال الدولتين الأموية والعباسية فقد حدث إحلال لكثير من المصطلحات والتعبيرات مع بقاء قواعد اللغة وأصولها وأقرب مثال لذلك اللغات المستخدمة في وسط آسيا كلغات الأزبك والتركمان والشيشان وفي الدول الإسلامية في أفريقيا وغيرهم[41] .
وعندما بدأ إحياء هذه اللغات كلغات علوم وثقافة أدرج الإحلال على أنه جزء من اللغة وصار لكل شعب من هذه الشعوب لغة تسمى باسمه كالأزبكية والتركمانية والتركية وغيرها وإن كانوا فيما بينهم يعتبرونها لهجات لكنها في أدبياتهم تطلق عليها لغات وكلما بعدت المسافة كلما زاد الفارق بين لغتين أصلهما واحد .
هذا الانقسام المجتمعي على أساس اللغة يعتبر أهم عناصر تخلفنا في بعض مناطق العالم الإسلامي ؛ فبعض اللغات المحلية كانت لغات منطوقة وليست مكتوبة كلغة البربر ، مما جعلها فرصة سانحة للاستعمار أن يحول هذه اللغة من منطوقة إلى مكتوبة وبأحرف لاتينية. ولأنها لغة هذا الشعب أو ذاك فقد أصبح تعليمها مطلباً وطنياً . وبذا بدأ في تدريسها للأجيال الجديدة وفصلت بذلك من تاريخها وتراثها الإسلامي ولم يعد لها سوى ما ترجم إلى لغتها الجديدة .
كما أن بعض الشعوب التي تتحدث لهجات متقاربة ، كان يمكن أن تجتمع في أدبيتها على لغة واحدة وتترك للشعوب استخدام اللهجات في الحياة اليومية ، كما نجحنا نحن العرب في استخدام الفصحى في الأدبيات والعامية في الحياة اليومية ، إلا أن تجذير الوطنية في نفوس هذه الشعوب ولد لديها اعتزاز بلغتها ورغبة في تأصيلها . وحيث أن هذه اللغات لم تستخدم كلغات ثقافة وعلم لفترات طويلة فقد عزلت هذه الشعوب أيضاً عن تراثها الإسلامي وأصبح كل شئ يؤلف أو يترجم إلى هذه اللغة يحتاج إلى جهد بشري ومالي كبير . والدعاة الذين زاروا المسلمين في الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي رأوا حجم المأساة . فشعوب لا يزيد عدد سكانها عن 4 ملايين تتحدث لغة مختلفة عن شعوب مجاورة يزيد سكانها عن 20 أو 30 مليون. ويحتاج الشعب الصغير إلى علوم مترجمة له بلغته وكتب التراث التي تتحدث عن تاريخه ويشكون من أن الكنائس قد ترجمت الإنجيل إلى لغاتهم قبل سقوط الاتحاد السوفياتي .
وهكذا هزمنا في مجال اللغة وخسرنا شعوب بأكملها في آسيا وإفريقيا وأوربا ، لأننا لم نحافظ على لغة واحدة تعدها لغة الثقافة والعلوم والتفاهم بيننا ، وقد كانت هزيمتنا مزدوجة في ميدان اللغة وميدان الإقليمية الضيقة والتي تولدت عن افتخار كل شعب بلغته واعتداده بتاريخه وتراثه قبل الإسلام . فهؤلاء عرب يفخرون بعربيتهم أثناء حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران وأولئك فرس يفخرون بالنيروز وغيره من تراث فارس القديم . بل إن الخليج الذي يقع بين الدولتين يدرس اسمه في أحدها الخليج العربي وفي الأخرى خليج فارس . والعثمانيون يدرسون في مدارس العرب في كتب التاريخ على أنهم أحد أنواع الاستعمار الذي مر على المنطقة العربية . والبربر يرون العرب مستعمرين والعرب يرون غيرهم عجماً. صور ونماذج متخلفة يحار الحليم في فهمها وأين كانت منذ فتح فارس وإفريقية وكيف بعثت بعد أكثر من ألف عام . إنها حقاً جاهلية وإنها حقاً تخلف اجتماعي .
والأخطر في هذا التخلف امتداد الاعتداد باللهجات داخل اللغة الواحدة ؛ فالإقليم داخل الدولة والذي يتحدث لهجة معينة ينظر إلى لهجته نظرة الفخر الذي يدفعه للفخر بإقليمه وبلده وانتقاص الأقاليم الأخرى والمدن الأخرى . وبذا يصل التفتت إلى العمق فما تعود لغة أو لهجة أو دولة أن تجمع شتاتنا بل يصبح كل حي في كل إقليم في كل شعب في كل دولة ينظر لنفسه أنه درة الكون وسر الحياة ، وأن غيره وإن كان من جلدته ومن لغته ومن شعبه أدنى منه مرتبة وأقل منه مكانة . ففي الأردن هناك البدو وهناك الحضر ثم هناك في الحضر الأردنيين الأقحاح وهناك الفلسطينيين ثم هناك العرب حضرهم وبدوهم وهناك الشراكسة العجم . وهكذا في العراق وفي موريتانيا والجزائر وغيرها . وإليك هاتين الحادثتين الطريفتين لتعرف حجم التخلف الاجتماعي الذي نعيشه .
ركب أحد المواطنين والذي يرجع أصله إلى بخارى سيارة أجرة مع ركاب بدو وعند حاجز التفتيش سأل الشرطي عن جنسية الركاب فبادره ذلك الرجل بأن السيارة تقل مواطن وثلاثة بدو . وكأن البدو في نظره ليسوا مواطنين .
والحادثة الأخرى ؛ إمام مسجد يحدث الناس عن العقيدة وكيف ضاع المسلمون عندما تركوها ، ثم يبدأ بتصنيف المسلمين في العالم فيقول : ليس هذا المليار الموجود من المسلمين مسلم . بل أغلب العجم على بدع وضلالة والعرب هم الذين يمكن أن يقال عنهم مسلمون . ثم يستدرك فيقول : ليس كل العرب فكثير منهم أيضاً على ضلالة ولا أظن أن هناك مسلمون حقيقيون إلا في هذه البلد . ثم يستدرك أيضاً فيقول : ليس كلهم أيضاً فهناك مبتدعة في غرب البلاد وشرقها . وهكذا يستمر في تخصيص الإسلام في إقليمه ثم في مدينته حتى يصل إلى حيه ، فيحصر بذلك إسلام مليار وثلاثمائة مليون مسلم ليجعله في أهل حيه الذين لا يجاوزون العشرات من البشر .
2) النظر إلى المرأة ودورها في التخلف :
منذ وجد البشر مع هذا الكوكب والمرأة تابعة للرجل في كل أمورها وميزة هذه التبعية أن المجتمعات التي يسود رجالها الكرم سيسود حتماً في نسائها ، وكذلك الشجاعة والعفة والعلم وغير ذلك كثير . لكن في المقابل عندما يسود في مجتمع الرجال الفساد الأخلاقي والبخل وقلة الدين وقلة العلم فكذلك سيسود ذلك في مجتمع النساء .
فالمجتمع النسائي ينقل الصورة الداخلية لشكل المجتمع الظاهري . ولذا فلا يمكن تعميم حالات قليلة تسود فيها صفة كريمة أو ذميمة في أشخاص أو علماء في حين هذه الصفة غير موجودة في نسائهم على أن ذلك كسر لقاعدة التبعية . فصحيح أن هناك علماء وزوجاتهم في جهل وأمية لكن ذلك ليس الأصل . فعائلة المقدسي في التاريخ الإسلامي اشتهرت على مدى أكثر من جيل بعلم رجالها ونسائها وكذلك الحال الآن في علماء الشناقطة ونسائهم وفي دول الغرب شاهد آخر على أن معظم الباحثين زوجاتهم مساعدات لهم في البحث أو مشاركات .
كل ما ذكر أظن أنه معروف وملاحظ ، لكن الخطر الغير ملاحظ هو دور المرأة في تكوين أو تفتيت المجتمع سلوكياً ، وعلمياً و، وحضارياً . إن الرجل هو الرجل أينما كان وأينما حل ، سواء في أقاصي اليابان أم صحراء نجد أو في ثلج سيبيريا أو في أدغال افريقيا أو هناك جوار مركبة الفضاء في أمريكا . فلسفته تقوم على أن دوره لا يخرج عن دائرة طلب الرزق وتقديم أسباب إنجاب الأبناء والإشراف العام على المقيمين داخل المنزل ، بلعب دور الشرطي في المنزل . ويرى أيضاً أن على المرأة عبء العمل داخل المنزل بدء من النظافة وحتى استقبال ضيوفه وما بين ذلك من أعباء ، وإنجاب الأبناء ثم تربيتهم وتعليمهم وأن تكون مأوى له ينفس فيه عن كل ما يكدره في العمل .
هذه الفلسفة لها خطرها في تكوين المجتمعات الحديثة ، فالحرب العالمية الثانية وقبلها الأولى خلفت في أوربا عشرات الملايين من الأرامل والأيتام . وحيث إن المعيل قد توفي أو قتل قامت المرأة هناك بلعب دورين في وقت واحد ؛ دور الرجل بكل تكاليفه وما يعانيه من طلب الرزق ودور المرأة بكل وظائفها . وهنا يظهر الخطر حيث نشأ جيل لا يرى الأم إلا ساعات محدودة وباقي أوقاته يتلقى التربية والتوجيه من الشارع[42] . ولغياب الأم الكثير عن المنزل انتهى دورها كشرطي يمكن أن يضبط السلوك الأسري داخل المنزل . وبذلك نشأ جيل يتنكر لكل شئ بعد أن فقد الحنان وعاش الجوع وقبل ذلك لم يتلقى التربية . وهكذا فسدت أوربا عندما أنهكت المرأة بالقيام بدورين في وقت واحد . ولم يكن غريباً أن تنادي أصوات عديدة منذ النهضة الصناعية في أوربا وحتى بعد الحربين الأولى والثانية بحقوق المرأة والمساواة مع الرجل[43] . فالظلم الذي عاشته المرأة الغربية في الحقوق والواجبات لم تعانيه المرأة الشرقية . لكن الغريب حقاً أن يصبح الخطأ فلسفة تتطور لتصبح هدفاً وتزداد تطوراً لتصبح شعاراً للجماهير تعصف به الشوارع حتى يدرج ضمن قوانين الدول. فما حدث للمرأة الغربية خلال القرنين الماضيين ليس وضعاً طبيعياً بل هو وضع شاذ . فالثورة أو النهضة الصناعية أفقدت الأوربي ضميره قبل صوابه في الانطلاق نحو الآلة والإنتاج وإن ضحى بتركيبه المجتمع وشغل المرأة والطفل لساعات طويلة طوال اليوم . والحرب بويلاتها أفرزت ذلك الكم الهائل من الأرامل والأيتام وفرض عليهم أن يعيدوا بناء أوربا الحديثة .
إن ما حدث وضع شاذ كان يمكن احتواؤه ولو على فترة عقود من الزمن . فهذه اليابان برغم ما عانته من ويلات الحرب الأولى والثانية وبالرغم مما تعانيه من ثورة صناعية ضخمة إلا أن المجتمع لم ينسلخ من تقاليده وتماسكه كما حدث في أوربا . والإنحراف الحادث الآن في اليابان والصين أقل بكثير مما تعانيه أوربا برغم تشابه الظروف إلى حد معقول .
إن المشكل في أوربا أن الخطأ أصبح قانوناً أو شعاراً أو على الأقل فلسفة تلقن للأجيال . فقيام المرأة بلعب دور الرجل والمرأة في نفس الوقت لا يمكن أن يكون كاملاً وكذلك لو قام الرجل بلعب دور المرأة ودوره فلا يمكن أيضاً أن يكون ذلك كاملاً . لكن المرأة أضحت بحكم الحاجة إلى ذلك الوضع ثم بروز رجال ونساء ينشرون نظرية المرأة (السوبر) الفوق العادة ، وهي ما يعبر عنها بالمرأة العاملة ، أي تلك التي تقوم صباحاً وتحضر الإفطار ثم تهيئ الأبناء للمدارس ثم تقود السيارة إلى العمل وهناك تعمل في كل شئ من نظافة الشوارع وحتى منصب مدير عام وفي فترة الغداء تنزل لأقرب مطعم لتأخذ غداءها ، ثم تصل إلى المنزل الساعة الخامسة وقد عاد الأبناء قبلها بساعة ونصف لتبدأ دور المرأة في تجهيز الطعام وغسل الملابس ونظافة المنزل ومراجعة دروس الأبناء والذهاب للتسوق من السوبرماركت ، ثم تأتي العاشرة فترتمي على فراشها لتقوم في اليوم التالي بنفس الدور .
هذه التمثيلية التي أقنعت بها المرأة الأوربية كانت تظهر في الشارع الأوربي على شكل إعلانات ومؤتمرات وكتب ومحاضرات وجمعيات وعشرات المسلسلات التلفازية والإذاعية حتى ظنت المرأة أن هذا الدور الذي أسند إليها لاعيب فيه ولا ضير بل إنها قد خلقت لتقوم به . فاستمرأت هذا الدور حتى ظهرت الكثير من الأفلام النسائية تنكر على المرأة القائمة بدور واحد وتطالبها بالخروج والمشاركة في معركة البناء . وتطور الأمر حتى أدرج قانون في أغلب دول أوربا وامريكا يشجع ويحمي (Single Mother) الأم بدون زوج سواء كانت أرملة أو مطلقة أو منفصلة عن زوجها أو الأخطر أنجبت بدون زواج . وأهم ما في القانون أن الدولة توفر السكن وبعض البدلات وامتياز في شغل الوظائف لهؤلاء الأمهات بدون أزواج . وبذلك انتشرت ظاهرة (الأم بدون زوج) وأصبحت جزء من التركيب الاجتماعي في المجتمعات الغربية . وأثر ذلك على سلوكيات الأطفال وأصبحوا فريسة الشارع والتلفاز وصار ضغط الحياة يدفع بالأم إلى بذلٍ أكثر فأكثر . ولم يعد بعد نشأة أجيال على هذا السلوك ، للقيم دور في حياة الأم فضلاً عن الأبناء . فحاجاتها الجنسية تلبيها دون حاجة إلى زوج وكذلك أبناؤها وبناتها في سن المراهقة . وتشهد أوربا في هذا العقد أكبر موجة من الولادات المبكرة في سن 14 عاماً كنتيجة لسوء التربية والتوجيه . وليس غريباً أن يشهد الغرب حملة اللواطيين والسحاقيات ، فهي إفراز طبيعي لانعدام التوجيه في المنزل ثم الإصرار على صحة الخطأ والمناداة به كستار ثم تفرض أوربا قانوناً يسمح للرجل أن يتزوج من رجل وللمرأة أن تتزوج من امرأة .
هذه صورة عن كيفية تغيير ثقافة شعوب من خلال استخدام وسائل الإعلام والكتاب والمفكرون والساسة . وهي أيضاً صورة تكررت في مجتمعنا المسلم ولكن بصورة أخرى . فتبعية المرأة للرجل يفهمها الرجال في شرقنا المسلم على أنها تبعية طاعة ، فالرجل سيد البيت وهو القائم بدور الرجل خارج المنزل والشرطي داخل المنزل . وذوق الرجل في المأكل والملبس وشكل البيت هو الذوق الذي ينبغي أن يسير عليه كل أفراد المنزل . وله كشرطي حق الضرب والإهانة لجميع أفراد الأسرة إن أخطأوا بدء من الأم وحتى أصغر طفل . على هذه الفلسفة تربت جدتي وجدة الشرقيين المسلمين . فللرجل قداسته ومكانته لا ينبغي للمرأة أن تمسها . وقد أدى هذا الدور للرجل في الحفاظ على كينونة وعادات المجتمع الشرقي برغم الاستعمار والتغريب وهجمات الإعلام . وقد ساهم ذلك أيضاً الحفاظ على الأسرة وشكلها الأساسي (أب ـ أم ـ أبناء) دون تشتت . كما ساهم ذلك أيضاً في بعد المجتمع عن الأمراض الاجتماعية التي سادت دول أوربا .
إلا أن ذلك الدور القاتل لشخصية المرأة كان سبباً من أهم أسباب تخلفنا الاجتماعي. فالتعليم خلال قرون التخلف الأخيرة انحصر في الرجل وحرمة المرأت منه . فأنتج ذلك بعد أجيال جيلاً من الأمهات يربون الأبناء على ترك العلم والاتجاه إلى طلب الرزق. فالرجل منشغل عن تربية الأبناء بطلب الرزق والأم جاهلة والمجتمع يسوده فقر فلذا ألجئت الأم إلى دفع الأبناء إلى البيع والشراء أو العمل (كصبيان) عند أحد المعلمين فصنعة في اليد أمان من الفقر . والأمر لو سار على أنه فترة شاذة في تاريخنا الحضاري لكان الأمر سهلاً لكن كما حدث في أوربا ، فقد استمرء الخطأ حتى صار شعاراً ثم أصبح عرفاً في كثير من مجتمعاتنا الشرقية . والعرف عندنا يعادل القانون عند الأوربيين وإن لم تكن له صفة قانونية .
فظهرت في منتصف القرن الهجري الماضي صيحات تطالب بعدم تعليم المرأة وأن خروجها إلى طلب التعليم مفسدة وأي مفسدة . ويستشهد هؤلاء بهدى شعراوي وغيرها كنماذج للخارجات عن القيم والعادات . ثم يفلسف هذا الخطأ بأن التعليم والعلم للرجال وأن للمرأة رعاية الأبناء والبيت ، ولعمري أي رعاية وتربية تقدمها جاهلة لأبناء عالم أو خبير ؟! فأصبحت المرأة في شرقنا آلة بشرية للإنجاب والتنظيف والطبخ ولمتعة الرجل وانتهى دورها في تهيئة أمة قامت على أكتاف النساء . ولمن أراد أن يتأكد من قولي هذا فلينظر إلى أمهات علمائنا أبان عصور حضارتنا ومجدنا . فأم الإمام الشافعي والخنساء وغيرهن آلاف كن نموذجاً صادقاً للدور الريادي للمرأة إن أحسن تربيتها وتعليمها وصدق المثل القائل “وراء كل عظيم امرأة” .
فالمرأة هي خط الدفاع الحقيقي داخل المنزل فتحصينها لأبنائها عقائدياً وسلوكياً وصحياً ودراسياً وغذائياً تنتج أفراداً صالحين يقوم عليهم مجتمع حضاري . والعكس صحيح في خط دفاع واهن لا ينتج إلا جيل وهن وتكاسل . والتاريخ والحضارات الإنسانية أكبر شاهد على ذلك وصدق من ذكر أننا في شرقنا غُزينا من ثغر المرأة . فالحملة على المرأة الشرقية كانت شرسة وخطوط دفاع نسائها كانت واهية . فلا علم ولا تعليم ولكن جهل وعادات توافقت مع تعليم غربي حديث وعادات غربية حديثة . تستبدل الأكل بالمعلقة بدل اليد ولبس الفستان بدل العباءة وتخرج المرأة من دوامة الجهل إلى الطب والهندسة والفن .
هكذا اختلطت الصور في عقول نسائنا في منتصف القرن الماضي . ثورة على الجهل والتخلف مع وجود بديل واحد هو البديل الغربي . لم نأسس نساءنا على الإسلام ولكن أسسناهن على العادات فكانوا بذلك ضحية عادات جديدة . ولم نسع لتعليمهن فكسروا باب التعليم ودخلن كل أبوابه من مهندسات في الطاقة النووية وطبيبات وأستاذات في أرقى الجامعات وحتى مدربات لرقصة هز البطن وأنواع الرقص الشرقي الأخرى .
والناظر إلى نسائنا الشرقيات يجد الأم المحجبة التي لم تدرس أو تتعلم و تقف معها ابنتها الجامعية بفستانها المنتقى من آخر موضات أوربا ، كيف نشأت الاثنتان في بيت واحد ؟! إنه تصوير لاختلاط الصور في عقولهن . والصورة في عصر الصحوة الإسلامية الآن يمكن أن ترى معكوسة فالأم المتعلمة من جيل الستينات والسبعينات الميلادية حاسرة عن مفاتنها وتسير معها ابنتها الجامعية محجبة أو منقبة.
الخلاصة :
قال مالك بن نبي : ((قبل قصة كل استعمار هناك قصة شعب قابل للاستعمار)) ، وكذلك الحال في تخلفنا ؛ فالغرب والشرق لا يمكن أن يوجه اللوم لهم فقط في حين أننا نعيش سكرة التخلف في مجال التعليم والإعلام والمجال الاجتماعي . فهناك قصة وراء التخلف الذي عشناه في القرن الهجري الماضي والذي ما زلنا نعاني من آثاره ونحاول محو بقاياه من إعلامنا ومدارسنا ومجتمعنا . إنها قصة بدأت منذ القرون الأخيرة في حياة الدولة العثمانية وامتدت جذورها في المجالات الحياتية بكل أشكالها.
وفي هذه الدراسة ركزنا على الجانب الإعلامي والتعليمي وانعكاسه على الجانب الاجتماعي . ولكن هناك جوانب أخرى سياسية واقتصادية وزراعية وصناعية لم تتطرق لها الدراسة ، وكانت أيضاً عوامل هامة في آلية تخلفنا ، لعدم تناسب موضوع الدراسة مع هذه العناصر .
ولقد بدأت محاولات التنوير في منتصف القرن الهجري الماضي تأخذ طريقها بقوة واندفاع ونجحت في انتشال الأمة من دائرة الأمية إلى دائرة التعليم . واستخدم في ذلك كل مقدرات الأمة من كوادر بشرية ومعاهد وجامعات ووسائل إعلام . لكن المشكلة كمنت في أن اندفاع الجائع نحو الطعام يفقده اختيار ما يفيده مما لايفيده . فنهلنا من مناهج فلسفات الغرب والشرق دون تميز أو تفكير . فأنتج لنا هذا الاندفاع صوراً بشرية من أبناء جلدتنا تصور لنا مادرست في الغرب والشرق وتقدم لنا العلاج من تخلفنا الحضاري على شكل مستحضرات علمانية ، اشتراكية ، يسارية …، الخ ، ثم تمزجه مع ما درست من مناهج وأصول بحث علمي لتخرج لنا تقدماً حضارياً شرقياً منطلق من بيئتنا وبلغتنا لكنه يتعارض مع موروثاتنا .
وركزت الدراسة على الجوانب التخلفية في مجالات التعليم والإعلام والمجتمع والتي هيئت الفرصة لإيجاد استراتيجيات غربية تحكم القبضة على شعوب الشرق والجنوب من قبل دول الشمال . هذه الاستراتيجيات وجدت نتيجة دراسات مكثفة قام بها المستشرقون ثم المختصون في السياسات الخارجية بوزارات الاستعمار أبان فترة الاستعمار في القرنيين الماضيين . وبعد خروج الاستعمار ما تزال المراكز الثقافية في السفارات الغربية تقوم بدور كبير في التأكد من نتائج هذه الاستراتيجيات والتي سندرسها في دراسة أخرى والله المستعان .
[1] أبو الخير، رسالة دكتوراه “دور الاتصال في نشأة وانتشار الجماعات الإسلامية ، غير منشورة .
[2] أفغانستان خلال الستينات (نظام ملكي، جمهوري، ثمّ شيوعي) .
[3] صحيح مسلم ج ص
[4] صحيح البخاري ج ص
[5] المصدر نفسه ج ص
[6] طه حسين ، الثقافة في مصر ص44
[7] أعلنت سوريا الحداد على وفاة الزعيم الكوري كيم إيل يونغ.
[8] سورة الإسراء آية (70)
[9] أنظر محمد قطب، واقعنا المعاصر، مؤسسة المدينة للنشر والتوزيع، جدة، السعودية، 1407هـ، ص 250-295
[10] أنظر الدكتور علي النملة، التنصير في المراجع العربية، جامعة الإمام بن سعود الإسلامية، الرياض، السعودية، 1424هـ، ص 82
[11] انظر محمد رشيد العويد، مذكرات ذات خمار، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، 1420هـ، ص 35
[12] يقول الدكتور طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر ” التعليم عندنا على أي نحو قد أقمنا صروحه ووضعنا مناهجه وبرامجه منذ القرن الماضي على النحو الأوربي الخالص، ما في ذلك شك ولا نزاع، نحن نكون أبناءنا في مدارسنا الأولية والثانوية والعالية تكويناً أوربياً لا تشوبه شائبه” ص 38
[13] سورة ص آية (71)
[14] انظر محمد قطب، مذاهب فكرية معاصرة، دار الشروق، القاهرة، مصر، 1403هـ, ص 107
[15] انظر محمد قطب، رؤيا إسلامية لأحوال العالم المعاصر، دار الوطن، الرياض، السعودية، 1411هـ، ص 41
[16] اننظر محمد قطب، مذاهب فكرية معاصرة، مرجع سابق، ص 579
[17] د. على جريشة، الإتجاهات الفكرية المعاصرة، دار الوفاء للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، 1407هـ، ص 117
[18] محمد قطب محاضرة (منهج التربية الإسلامية) ، جامعة الملك عبد العزيز جدة 1997م
[19] موجه إدارة مدرسية بإدارة التعليم بالمدينة المنورة .
[20] انظر د. نايف معروف، خصائص العربية وطرق تدريسها، الفصل الثاني التعريب، دار النفائس، بيروت، لبنان، 1405هـ، ص 70-87
[21] سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، عالم المعرفة، الكويت، 1979م، ص 330
[22] جورج سادول، تاريخ السينما في العالم، ترجمة إبراهيم الكيلاني وفايز كم تفتش، منشورات بحر المتوسط وعويدات، بيروت، لبنان، 1968م، ص 513
[23] سمير فريد، في السينما العربية، دار الطليعة للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 1981م، ص 15
[24] يقول د. إبراهيم العريس عن السينما في لبنان “مرحلة الرواد بين 1930-1952م هي المرحلة التي أنتجة فيها الأفلام الثمانية ومنها فيلمان حافلان بالمغامرات صناعا على نمط شارلي شابلن من الناحية الشكلية البحتة” رحلة في السينما العربية، دار الفارابي، بيروت، لبنان، 1979م، ص 44
[25] يقول جورج سادول عن كمال سليم كاتب فيلم ( العزيمة 1939م ) كان كمال سليم معجباً بصورة خاصة (بالواقعية الشاعرية) الفرنسية فعرف كيف يستخلص تعاليم رنيه كلير وكارنيه أو جان رينوار. لاكن أسلوبه كان أصيلاً أشبه بأسلوب الواقعية الجديدة للإيطاليين الذين جاؤا بعد زمن قليل والذين كانوا هم أيضاً متأثرين بالمدرسة الفرنسية واقتبس في فيلم (قضية اليوم 1943) المسرحية الشارعية الفرنسية (الأستاذ دولفيك وزوجه) وفي (البؤساء 1944م) طابق في مصر الحديثة رواية فكتر هوجو الشهيرة بنجاح” مرجع سابق ص 526-572
[26] يقول د. رفيق الصبان في مجلة المعرفة السورية خلال نقده لمسرحية “جحا في القرى الأمامية” لجلال الخوري (من رواد الإخراج في لبنان) “المسرحية تحمل إسم جحى في القرى الأمامية ورغم أن السيد جلال الخوري قد كتب في إعلاناته وفي المنشورات التي صاحبت المسرحية أن العمل من تأليفة غير أننا أحسسنا أن تأثره كان بالغاً ويكاد يكون مسيطراً في بعض المشاهد بمسرحية بريخت المعروفة (الجندي شافيك يذهب إلى الحرب) بل إن هذا التأثر لم يبقى أيضاً في حدود النص بل امتد إلى المفهوم الأساسي والرؤيا التي طرح الرؤيا المسرحية بها المخرج عمله” مجلة المعرفة السورية، العدد 124-125، يونيو 1972م، نقلاً عن كتاب سعد أردش، مرجع سابق، ص 356
[27] يقول د. طه مقلد عن بداية التمثيلية الإذاعية ودور الرواد في ذلك “فترجموا الكثير من المسرحيات الأجنبية ذات الفصل الواحد وخاصة ما تجري حوادثها في مكان واحد وكان الراوي في الغالب يقوم بنقل المنظرور إلى مسموع فتمثيلية (الهزيمة) التي أدية في 10 يناير 1938م، مسرحية ذات فصل واحد للكاتب جون جلونورزي ترجمة السيد بدير .. إلخ” المثيلية الإذاعية بين ماضيها وحاضيرها، مكتبة الشاباب، القاهرة، مصر، 1975م، ص 19
[28] مقابلة مع دريد لحام في مجلة كويتية ..
[29] البخاري ، صحيح البخاري ، شرح وتحقيق الشيخ قاسم الشماعي الرفاعي ط3 ، ج9 ، ص760 شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم بيروت لبنان :1418هـ 1997م .
[30] يقول د. طه مطلق “وإذا كانت التمثيلة الإذاعية بدأت حياتها بموضوعات إجتماعية مترجمة ومقتبسة فإنها ما لبثت أن شاركت حيات الجماهير في الأعياد القومية والوطنية..” مرجع سابق، ص
[31] بعلبكي منير، المورد، دار العلم للملايين ، بيروت ، لبنان، 2000
[32] انظر د. علي النجعي، الفصل الثامن، الضوابط الإعلامية، في كتابه، الإعلان ..! مفاهيم، الرياض، السعودية، 1417هـ، ص 114
[33] مسرحية ضيعة تشرين .
[34] يقول سمير فريد عن بداية السينما في مصر خلال الحرب العالمية الأولى “ونتيجة للتوقف عن استيراد الأفلام أثناء الحرب العالمية الأولى تم في الأسكندرية والقاهرة عام 1917م، إنتاج ستة أفلام قصيرة مولها (بنك إيطاليا) وأخرجها إيطاليون” مرجع سابق، ص
[35] يقول جورج سادول عن بداية السينما في العالم العربي ” لقد دخلت السينما مبركراً إلى العالم العربي في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر جاب مصورون عديدون من مؤسسة لوميير (الفرنسية) الجزائر وتونس ومصر وفلصطين وسوريا ولبنان وعادوا منها بعشرات اللقطات .. وبعد حرب العام 1914م، حققت أفلام عديدة في العالم العربي من قبل سينمائيين أوربيين أو أمريكيين شماليين .. وأحصى باتاي وميللون في مؤلفهما الخاص بالسينما (مصورة تحت الشمس) والذي نشر عام 1956م، وكرس للأفلام المأخوذة في المغرب حوالي 50 فيلماً طويلاً حققت بين 1919-1930م، وعدداً مماثلاً من الأفلام الناطقة للسنوات العشر التي سبقت الحرب. كانت هذه المنتجات على عهد السينما الصامتة فرنسية في معظمها. ولكن بعد العام 1924م، شوهد وصول سينمائيين أمريكيين وإنجليز وألمانيين وحتى هولنديين .. إلخ” مرجع سابق، ص 513-514
[36] انظر مثلاً كتب يحى بسيوني مصطفى وكتب سيد ساداتي الشنقيطي كأمثلة على ما ذكرت.
[37] انظر كتب عبد اللطيف حمزة – محمد سيد محمد، كأمثلة على ما ذكرت.
[38] يقول سعد أردش في كتابه المخرج في المسرح المعاصر “لقد تحدثنا عن أهم أركان جيل الأساتذة والمؤسسين من الخرجين ولقد امتد دورهم من أرض مصر إلى معظم الأراضي العربية بطريق مباشر وغير مباشر. وسيبقى لهم دائماً فضل الريادة في وضع أسس فن المخرج ومسرح المخرج في تاريخ المسرح العربي، كما سجل هذا التاريخ الريادة لمارون وسليم نقاش وأبي خليل القباني وأبي نظارة ومحمد عثمان جلال في تأسيس المسرح العربي. ومن البديهي أنه إذا كان المسرح العربي قد قام في مراحله الأولى على محاكات المسرح الأوربي فإن المخرج أيضاً في تلك المرحلة يعتبر بشكل كامل ناقلاً عن المدارس الأوربية التي اطلع عليها أو درسها وسيمتد هذا مرحلة من الزمن” ثم يقول سعد أردش عن الجيل الثاني من رواد الإخراج والذين يعتبرون الآن أساتذة الجيل “يشتمل هذا الجيل على مراحل ثلاثة متقاربة، تبدأ من أواخر الأربعينيات وتستمر حتى السبعينيات:
المرحلة الأولى: عبدالرحيم الزرقاني عين بمجرد تخرجه عام 1947م معيداً بالمعهد ومخرجاً بالمسرح القومي.
حمدي غيث بعثة إلى فرنسا 47-1951 يعمل خلال السبعينات خارج مصر
نبيل الألفي بعثة إلى فرنسا 47-1951 أستاذ أكاديمية الفنون المحلية في بغداد
المرحلة الثانية: سعد أردش بعثة إلى إيطاليا 57-1961 أستاذ بالمعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت
كمال ياسين بعثة إلى فرنسا 58-1961
كرم مطاوع بعثهة إلى إيطاليا 58-1964 أستاذ بأكاديمية الفنون الجميلة ببغداد
جلال الشرقاوي بعثة إلى فرنسا 58-1964
حسين جمعة بعثة إلى فرنسا 58-1964
فاروق الدمرداش بعثة إلى إنجلترا 58-1964
نجيب سرور بعثة إلى روسيا 58-1964
محمد عبدالعزيز بعثة إلى فرنسا 59-1964
كمال عيد بعثة إلى المجر 59-1964 مستشار فني بالمؤسسة العامة للمسرح السينمائي بطرابلس ليبيا
أحمد عبدالحليم بعثة إلى إنجلترا 64-1966 أستاذ بالمعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت
أحمد زكي بعثة إلى فرنسا 64-1966
المرحلة الثالثة: سمير العصفوري بعثة إلى فرنسا 64-1967
محمد مرجان بعثة إلى إيطاليا 64-1968
محمد رستم بعثة إلى إيطاليا 64-1968
وهناك مرحلة رابعة عن جيل جديد درسوا على أيدي مخرجي المرحلتين الأولى والثانية نظرياً وتطبيقياً واستحقوا بالتجربة أن يشغلوا مكان المخرج في المسارح المصرية، مرجع سابق، ص 346
[39] الأستاذ فاروق أبو النجا .
[40] يقول سعد أردش “أكاديمية الفنون الآن تضم كل هذه المعاهد وهي إحدى المؤسسات العليمة لوزارة الثقافة، مرجع سابق، ص 349
[41] يقول الأمين صالح أبواليمن في بحثه (تجربة معهد الدراسات التكميلية المفتوحة لإعداد كتب تعليم اللغة العربية لتلاميذ يعيشون في مناطق التداخل اللغوي في السودان) “وطالما أن التحولات تسير في اتجاه معاكس لما يرغبون فقد بدؤ بالأخذ بالمنهج العلمي واستعانوا بالعلماء اللغويين لتصحيح الأمور لكي تتجه التحولات نحو أهدافهم فعقدت عدت مؤتمرات كان أهمها مؤتمر (لغة الرجاف الذي عقد سنة 1928م) وحضر المؤتمر عدد من الحكام الإنجليز واستدعي البروفيسور وستر مان العالم اللغوي لحضور المؤتمر مستشار له. والموضوع الذي طرح أمام الؤتمر يتلخص في إيقاف زحف اللغة العربية وانتشارها بين الإفريقيين وتشجيع استعمال اللغات المحلية بين عامة الناس ووجوب استعمال اللغة الإنجليزية في كل ما له علاقة بالأعمال الحكومية ونتج عن المؤتمر صدور القرارات الآتية :
- أن يتوقف رجال الإدارة الأهلية فوراً عن استعمال اللغة العربية في معالجتهم للمشاكل الصغيرة والشئون العامة للمواطنين ويستعملوا بدلاً منها اللغات المحلية.
- إختيار تسع لغات لتمثل المجموعة الأولى يكلف العلماء برصد هذه اللغات وكتابتها بالحروف اللاتينية والعمل على تطويرها وهي (بارايا، دنكا، كريس، لوتوهو، مورو، أندنقو، نوجر، شلك، زاندي)
- إختيار 18 لغة تمثل المجموعة الثانية.
- تقديم مقترحات لإنتاج كتب تعليمية لتلك اللغات.
وبعد هذا المؤتمر بست سنوات أي في سنة 1934م أعلن قفل الجنوب رسمياً فلا ينتقل سكان الشمال إلى الجنوب بقصد التجارة أو خلافه إلا بإذن خاص مكتوب وذلك كما ذكرنا محافظة على الشخصية الأفريقية والثقافات المحلية في الجنوب” من الأبحاث المقدمة في وقائع ندوات تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها في المدينة المنورة، الكويت، الدوحة، 1401هـ، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، السعودية، 1406هـ، ص 13-15
[42] محمد قطب، جاهلية القرن العشرين، مكتبة وهبة، القاهرة، مصر، 1964م، ص 166
[43] محمد قطب، رؤيا إسلامية لأحوال العالم المعاصر، مرجع سابق، ص 198