ذكريات وليست مذكرات
أهدتني أمي يرحمها الله عندما حصلت على الدكتوراه قبل 26 عاما ساعة لم ألبس غيرها الى اليوم وفاءً لأمي
يقول الله تعالى في سورة الكهف ( ولا تقولن لشيء إني فاعلُ ذلك غدا الا أن يشاء الله ) هذه الآية لم أطبقها فتأخرت في التخرج لمدة عام كامل . فخلال دراستي للدكتوراه في جامعة ويلز ببريطانيا وفي زياتي في صيف عام 1413 الموافق 1992 للمدينة سألتني أمي كعادتها في كل زيارة بلهفة متى تنتهي وتعود للمدينة ترددت قليلا في الإجابة فقد كنت في السنة الثالثة في الدكتوراه وقد أنهيت خمسة فصول من الرسالة البالغ عدد فصولها سته بالإضافة الى المراجعة النهائية لكامل الرسالة والتي تحتاج في العادة مع المشرف الى ثلاثة أشهر . وكنت أظن أن الفصل الباقي لن يزيد عن 40 صفحة ويحتاج الى ثلاثة أشهر أخرى . فقلت لها أحتاج عام كامل ولم أقل ان شاء الله .
كان السبب في اعطاء نفسي سته أشهر اضافية أن أمي يرحمها الله في كل مكالمة تكلمني من لهفتها كأم تقول لي :
أن فلان تخرج وانت لسه ؟؟؟
وفلانه ولدها خلص وفرحت بيه وأنا أبغى أفرح بيك ؟
رحمها الله رحمة واسعه فبالرغم من أن عمري وقتها كان 31 عاما لكنها تدللني وترحمني وكأني ابنها الوحيد . صحيح أنني كنت الوحيد المسافر عنها خارج الوطن ولكني واحد من تسعة أبناء وبنات .
على كل حال خوفا من أسئلتها لماذا لم أتخرج بعد سته أشهر كذبت عليها وقلت عام ولم أستثني فأقول ان شاء الله فعاقبني ربي بأن أشغل مشرفي كيفين وليمز خلال تلك السنة بمشاريع بحثية منتدبا من جامعته الى عدة دول في أفريقيا , وقد كانت معظم رحلاته لفترات بين الشهرين والثلاثة أشهر . فما أن يعود الى كارديف وأعطيه نسخة من الفصل الذي أنهيته حتى يسافر ومعه النسخة أو أن يقرأها قرأه سريعة ويتركها مع سكرتيرة القسم دون أن أشرح له أو يشرح لي . وهكذا ضاع علي ذلك العام الا ما استثمرت فيه وقتي في تأسيس مدرسة طيبة الإسلامية في مدينة كارديف والتي سأتحدث عنها في حلقة من ذكريات وليست مذكرات.
وتذكرت أنني كنت السبب في تأخري لأنني كذبت على أمي ولأنني لم أقل ان شاء الله عندما قلت سأتخرج بعد عام فعاقبت نفسي بأن لا أعود في الصيف الى المدينة لسببين :
الأول أنني استحيت من أمي أن أعود ولم أتخرج وهي التي تقول لي دائما فلان تخرج وابن فلانه تخرج مع ان بعض هؤلاء في مراحل الماجستير أو بعضهم قبلي بسنوات.
الثاني أنني عزمت أن أراجع كامل البحث بحيث أسلمه للمشرف عند عودته من اجازة الصيف مع الفصل الأخير في شهر سبتمبر.
ولكن حدث مالم يكن في الحسبان فبعد أن عرفت أمي أنني لن أتي في ذلك الصيف حزنت كثيرا وطلبت من أخي الكبير عمر يرحمه الله أن يستخرج لها جواز سفر وطلبت من أخي فيصل أن يحجز لها ويوصلها الي في بريطانيا وطلبت من الجميع أن لا يخبروني لتجعلها مفاجأة ؟؟
وبالفعل اتصل علي أخي فيصل وكان من عادته أن يأتي الى لندن للتجارة في العقار وقال لي أنه يريدني أن ألقاه في مطار هيثروا بلندن فلم أسأله عن السبب وعندما وصلت الى المطار بسيارتي سلم علي وأعطاني حقيبة ملابس ظننتها له وقال لي انتظر شوف هذي شنطة مين ؟
نظرت فإذا هي أمي يرحمها الله فحضنتها حضن الطفل الذي اشتاق الى أمه بعد فراق طويل وقبلت يديها ورأسها وقالت لي بكل حنان :
انت قلت ما تقدر تيجي عشان دراستك شوف أنا جيتك ؟
رحمك الله يا أمي ورحم الله ذلك القلب الكبير فلا أذكر أنها سافرت خارج المملكة منذ رحلتنا مع والدي يرحمه الله عام 1391 الموافق 1971 .
فرحت زوجتي وقد كانت حاملا في ابني مجاهد بها أيما فرح وفرح أبنائي دانية ومؤيد بقدومها وحرصنا على أن تزور معالم كارديف ومسجد دار الإسراء وكنا نظن أنها ستجلس معنا الى ولادة زوجتي منال الحمود ولكنها صدمتنا عندما قالت أنها من حجارة المدينة ولا يمكن ان تغيب عنها وأنها اشترطت على أخي فيصل أن تعود معه خلال ذلك الأسبوع .
لم تفلح توسلاتي وزوجتي وأبنائي في تغيير موعد سفرها وقالت لي يرحمها الله أن الهدف من الزيارة الاطمئنان علي وقد اطمأنت , وأمطرتني ببركاتها ودعواتها والتي كانت سببا بعد فضل الله في ان عاد المشرف في سبتمبر بأخر ملاحظاته حول ذلك الفصل وخلال اجازة الكريسمس أعطيته كامل الرسالة فقرأها خلال شهرين وتم تحديد المناقشين الخارجي والداخلي وارسلت لهم الرسالة في شهر مارس وحددت المناقشة في شهر6 أغسطس 1993 وبالرغم من أن المشرف كانت لديه رحلة في نفس وقت المناقشة فقد خيرني بين تأجيل الموعد او المناقشة بدون وجوده فقلت له لن أغير الموعد خصوصا وأن النظام في بريطانيا لا يعتبر وجود المشرف في المناقشة ضروريا حيث يدير في العادة جلسة المناقشة رئيس القسم مع المناقش الداخلي والخارجي .
عدت بعد ذلك الى بلدي وأحضان أمي واخواني وأخواتي وقد استقبلوني بزفة الصلاة والسلام عليك يا محمد يا رسول الله وعشت فرحة الأهل التي لا تعادلها فرحة وأهدتني أمي ساعة لي ونفس الماركة ساعة نسائية لزوجتي .
ووفاءً لأمي وحبا لها خصوصا بعد تعنيها السفر لرؤيتي في بريطانيا لم أنزع الساعة التي أهدتني إياها أمي من يدي منذ 26 عاما ولم أستبدلها بأي هدية من ساعات قدمت لي من زوجتي أو اخواني أو اصدقائي الا فترة شهرين تعطلت الساعة علي بعد حادث سيارة وأرسلتها مع ابنة أختي أية الخطيب الى جدة لوكالتها لتصليحها ولن أنزعها من يدي ان شاء الله الى يوم وفاتي وأوصيت إبني مجاهد ان أراد أن يلبسها من بعدي وفاءً لهذه الأم العظيمة.